الكناگر القاتلة والجرابيات السفاحة الآخرى
لم تكن الثدييات الأسترالية كلها حيوانات لطيفة
مثل الكوالا، فقد كان بعضها ضاريا كما كان عجيبا.
مظلة من ضباب الفجر تلف الغابة المطيرة في ريڤرسليه بشمال شرقي أستراليا قبل 15 مليون سنة. تبرز فصيلة من البندقوط(2)، ثم تغمس خطومها بحذر في بركة ضحلة من المياه العذبة، تدور آذانها متيقظة دائما لأي طقطقة مفاجئة أو حفيف في نباتات الطابق السفلي من الغابة(3): فحتى شرب الماء نشاط محفوف بالخطر دائما. وفجأة يخرج شبح داكن قوي العضلات من وراء شجيرة دَغْلِيّة(4) مجاورة مصطدما ببندقوط صغير في قفزة واحدة. ويطوق الشبح الأشعث فريسته بالكامل ويهاجمها بأسنانه الطويلة الحادة كالخنجر حاملا جسدها الذبيح إلى ركن هادئ حيث يقطع أوصالها ويلتهمها وقت فراغه.
في الطبيعة يواجه الكثير من الحيوانات مِيْتَةً عنيفة، ولذا فإن النهاية المحزنة لبندقوط صغير نادرا ما تستحق الذكر، إلا أن موت هذا الكائن الصغير قد يدهش غالبية المشاهدين الحاليين، فقاتله كان كنگرا. إنه على وجه التحديد الكنگر الجرذي العملاق القوي الأسنان (إكالتاديتا إيما Ekaltadeta ima).
والضواري ذات الدم الحار قليلة في أستراليا القرن العشرين، وبعضها متباعد عن بعض. ومن ضمن حيواناتنا المحلية يُعَدّ الداصيور الأرقط الذيل(5) (داصيورس ماكيولاتس Dasyurus maculatus) وشيطان تسمانيا(6) (ساركوفيلس هاريسي Sarcophilus harrissi) أضخم اللواحم. (إن الدنگو الشبيه بالكلب هو أيضا من اللواحم، ولكنه ليس أسترالي المنشأ وإنما أُدخِل إليها بوساطة الإنسان قبل ما يتراوح بين خمسة آلاف وأربعة آلاف سنة). والداصيور الأرقط الذيل حيوان جرابي يصل وزنه إلى سبعة كيلوغرامات، ويعرف أيضا باسم «السنور» المحلي بسبب الشبه الكبير بينه وبين السنوريات المشيمية. أما شيطان تسمانيا، وهو جرابي آخر، فهو أكبر قليلا ويشبه كلب الحضن(7) وله رأس ضبع شرس. ويعتبره المختصون ـ على خلاف بينهم ـ أقل اللواحم في العالم عناية (تمحيصا) بأكلها، فهو يلتهم جثة فريسته بالكامل بما فيها الأسنان. ويصنف هذا الزوج الغريب من الحيوانات (الداصيور الأرقط الذيل وشيطان تسمانيا) في فصيلة الداصيوريدات Dasyuridae التي تضم أيضا السنوريات المحلية الأخرى وكائنات أصغر كثيرا، أغلبها من آكلة الحشرات، وتسمى الفئران الجرابية.
لقد اقترح بعض العلماء أن أستراليا لم تضم في يوم من الأيام مجموعة غنية من اللواحم الضخمة ذات الدم الحار. وحديثا قال <T.فلانيري> [من جامعة هارڤارد] أن تطورها كان مقيدا بالتربة الفقيرة والمناخ المتقلب خلال العشرين مليون سنة الماضية أو نحو ذلك، ومنطقه في ذلك أن هذه القيود حدّت من الكتلة الحيوية النباتية، وبالتالي حدّت من حجم الفرائس الحيوانية الموجودة ووفرتها. ولذا فإن الزواحف ـ مثل العظاءة ميگالانيا پريسكا Megalania prisca التي يبلغ طولها سبعة أمتار والتي عاشت في العصر الپليستوسيني ـ قامت بدور اللواحم الأرضية الضخمة وذلك وفقا لفرضية فلانيري وآخرين. ولما كانت الضواري ذات الدم البارد تحتاج إلى غذاء أقل مما تحتاج إليه ذوات الدم الحار، لذا فإنه من المرجح ـ حسب الفرضية ـ أن يكتب لها البُقْيا في هذه الظروف القاسية.
معرض الضواري
تضمنت اللواحم المهولة من أستراليا القديمة أسدًا جرابيا وذئبا جرابيا وكنگرًا جرذيا عملاقا وعظاءة ضخمة.لقد بقي الكنگر الجرذي الضخم (پروپليوپس أوسيلاّنس) الذي يزن 60 كيلوغراما، و«الأسد» والعظاءة على قيد الحياة حتى الآونة الحديثة تقريبا، وربما تكون افترست الإنسان.
إن هذا الادعاء يواجه معارضة من التطورات الحديثة، وبالأخص الاكتشافات الأحفورية المذهلة في ريڤرسليه بكوينزلاند. ففي البداية لاحظ عالم التاريخ الطبيعي الأوروبي <E.W.كاميرون> وجود أحافير في هذا الموقع المنعزل عام 1900، غير أن كاميرون ظن أن العينة التي شاهدها كانت حديثة إلى حد ما، يقل عمرها عن مليوني سنة؛ إضافة إلى أن الصعوبة البالغة في الوصول إلى ريڤرسليه ـ إذ لا تسمح حرارة الصيف والأمطار الموسمية بالتنقيب إلا في الشتاء فقط ـ أقنعت علماء الأحافير (المستحاثات) بإهمال المنطقة عشرات السنين. ومع ذلك ففي عام 1963 غامر كل من<R. تدفورد> [من المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي بمدينة نيويورك] و<R.A. لويد> [من المكتب الأسترالي للثروات المعدنية] بزيارة الموقع، واكتشفا أن الأحافير مثيرة وأنها أقدم مما كان معتقدا، إلا أنها مفتتة ويصعب استرجاعها أو إصلاحها.
وعلى الرغم من هذا، فإن اكتشافاتهما حفزت بعثات استكشافية أخرى على التوجه إلى ريڤرسليه. ففي عام 1983 حقق مشرفي السابق <M.أرشر> [المدير الحالي للمتحف الأسترالي بسيدني] نجاحا كبيرا، مثله مثل باحث عن الذهب أصاب تِبْرًا. ففي لحظة راحة من عناء العمل في الموقع، نظر إلى موضع قدميه فإذا به يشاهد كتلة صخرية ضخمة تصادف احتواؤها على أنواع كثيرة جديدة من ثدييات العصر الثلاثي Tertiary الأسترالي، تضارع في عددها ما سق وصفه في قرون سابقة. ومنذ ذلك الحين ظهرت بمعدلات غير عادية، عينات جديدة متضمنة لواحم ضخمة، والكثير منها محفوظ بصورة فائقة الجودة، حتى إن بعضها يمكن أن يضلل المشاهد فيظنها بقايا حيوانات ماتت قبل أسابيع فقط.
يبدو أن المخلوقات القديمة كانت محاصرة غالبا في كهوف من الحجر الجيري، وتشهد عظامها ـ التي حُفظت بسرعة وبصورة كاملة بوساطة المياه الغنية بكربونات الكالسيوم ـ على وجودها في «حديقة حيوان» مفقودة، كان أفرادها وحوشا قتّالين تماما كالوحوش المعروفة اليوم، وربما كانوا أكثر غرابة. ومنذ عام 1985 أدى تعرّف تسعة أنواع جديدة من ريڤرسليه، كلها في حجم الداصيور الأرقط الذيل أو أكبر منه، إلى مضاعفة سجل اللواحم الأسترالية الضخمة التي تعود إلى ما قبل خمسة ملايين سنة. والآن يتضمن هذا السجل نوعين من الكنگر الجرذي العملاق وتسعة أنواع من «الذئب» الجرابي وخمسة أنواع من «الأسد» الجرابي وسنورًا محليا واحدا.
ترتبط الكناگر الجرذية العملاقة (الپروپليوپينات propleopines) ارتباطا وثيقا بالكنگر الجرذي المسكي. فهذا الحيوان البالغ الصغر، والذي مازال موجودا في الغابات المطيرة بكوينزلاند، يزن أقل من كيلوغرام واحد ـ وهو من الصغر بحيث يشبه الجرذ، ويأكل تشكيلة واسعة التنوع من المواد النباتية والحيوانات الصغيرة، غير أنه الوحيد بين الكناگر الحية الذي لا يستطيع القفز. ويمكن اعتباره أحفورة حية هي آخر وأصغر ما تبقى من فصيلة ضمت بعض أبناء عمومته المخيفة القوية العضلات. لقد تراوح وزن الكناگر الجرذية العملاقة مابين 15 و 60 كيلوغراما، ومن المحتمل أنها كأخلافها (أنسالها) الصغيرة مشت على أربع.
لقد سُميت الذئاب الجرابية (ثيلاسينيدات thylacinids) والأسود الجرابية (ثيلاكوليونيدات thylacoleonids) كذلك نظرا للشبه الخارجي بين أجسامها وأجسام الكلبيات والسنوريات، على الرغم من أنها أكثر قرابة للكناگر. إن آخر الذئاب الجرابية (ولعله سُمي ـ على سبيل الخلط ـ بالنمر التسماني لوجود خطوط على عَجُزه) قد انقرض في وقت مبكر من هذا القرن بسبب شهرة واسعة غير مؤكدة عن افتراسه للأغنام. والأسود الجرابية لها، مثل السنوريات، جماجم قصيرة عريضة قوية، ولعلها شغلت أيضا موقعا بيئيا مشابها، وتراوح حجمها بين حجم السنور المنزلي وحجم الأسد. وعلى الرغم من أن الأحافير لا تحتوي على أي آثار للجراب فإن التشابه المشترك لخصائص عظامها مع عظام الحيوانات الحية لا يترك مجالا للشك في أن جميع هذه المخلوقات كانت جرابية.
الغابة المخيفة
طوال معظم العصر الميوسيني (قبل 5 - 25 ملايين سنة) كانت أستراليا مفروشة بالكامل بكساء أخضر، وكانت الغابة المطيرة تغطي مساحات كثيرة صارت الآن ساڤانا أو صحاري. لقد كانت هذه الأدغال jungles بمثابة محطة توليد قوى تطورية وفرت مأوى لتنوع بيولوجي أكبر كثيرا مما يسمح به أي موطن بيئي أسترالي معاصر. إن رحلة ليوم واحد إلى إحدى هذه الغابات كانت ستغدو مليئة بالمفاجآت والكثير منها كان سيتسم بالخطورة.
إن إحدى هذه المفاجآت كانت ستتمثل في الكنگر الجرذي العملاق القوي الأسنان (إكالتاديتا إيما)، وهو واحد من الكناگر الجرذية الأكثر قدما. (تم وصف خمسة أنواع أخرى ضمن الترسّبات الأحدث). وكان الإكالتاديتا إيما أيضا الأصغر، فهو يزن فقط ما بين 10 و 20 كيلوغراما. وقد أمكن العثور على أحفورتين لجمجمتين كاملتين تقريبا لهذا النوع. إن هاتين الأحفورتين تعطياننا أفضل ما حققناه حتى الآن نحو تفهم العادات الغذائية للكناگر الجرذية العملاقة.
ولما كانت هذه الحيوانات قد تحدرت من أصول جرابيات عواشب (آكلة نباتات)، فإن بعض الجدل يدور حول تفسير بيولوجيتها. ومع ذلك فإن جميع المؤلفين المعاصرين يتفقون على أن هذه الكناگر غير الجديرة بالاحتضان uncuddly قد احتوى غذاؤها على اللحوم، ويأتي الدليل الداعم لهذا الافتراض من جماجمها وأسنانها.
إن التصور الشائع هو أن يكون للضواري الآكلة للحوم أنياب كبيرة. وهذا صحيح في الغالب، إلا أن هناك بعض الاستثناءات، فكثير من البشر يستهلكون كميات كبيرة من اللحم ـ أكثر ممن يطلق عليهم اسم لواحم؛ إلا أن أنيابنا ـ معشر البشر ـ صغيرة، في حين أن للغوريلات، وهي نباتية، أنيابًا كبيرة. إن السمة المميزة للثدييات الأرضية القاتلة هي وجود مجموعة أسنان وَجْنِية مميزة تستخدم للتقطيع والتمزيق.
في اللواحم المشيمية الأقل تخصصا، وهي عشائر الكنگر الجرذي العملاق والأسد الجرابي، تُكوِّن السنّان أو الأربع أسنان الأخيرة في الفكين العلوي والسفلي أضراسا عريضة تستخدم أساسا في طحن المواد النباتية. وأمام هذه الأضراس مباشرة توجد أنصال رأسية للتمزيق تسمى قواطع التمزيق(، يمكنها تمزيق العضلات والجلد والأوتار بكفاءة. وفي كل من هذه المجموعات الحيوانية الثلاث تكبر القواطع بصفة خاصة في الأنواع الأكثر اعتمادا على اللحم، في حين تكون الأسنان التي تتعامل مع النباتات مختزلة وربما غائبة. وعلى سبيل المثال ففي فم السنور المنزلي يمكن أن نجد الأسنان الوجنية التي تميز حيوانا لاحما عالي التخصص.
إن آخر الباقين مما كان في يوم ما حديقة تضم الضواري الأسترالية مثل شيطان تسمانيا،لا يفتقرون إلى الترويع. إن الداصيور الأرقط الذيل سنور محلي، أما الكنگر الجرذي المسكي فهو نهاية خط يمتد للوراء إلى الكناگر الجرذية العملاقة اللاحمة.
وعلى ذلك فالأهمية النسبية للقواطع مقابل الأسنان الطاحنة في فك أي حيوان تعطي مؤشرا جيدا إلى كمية اللحم التي التهمها، ومن هذه الناحية فإن الكناگر الجرذية العملاقة كانت تشبه الكلبيات من مثل الثعالب، وهي حيوانات انتهازية التغذية وتحتفظ بمقدرة عالية على الطحن. ولكن جمجمة الإكالتاديتا إيما أظهرت عددا من الصفات الأخرى المميزة للواحم. فلا شك أن بنيانها القوي، على سبيل المثال، قد دعم العنق الممتلئ والعضلات الفكية التي يحتاج إليها كثير من الضواري لإخضاع الفريسة، ولكن لم تنشأ لها قط أنياب طويلة في الفك السفلي، وبدلا من ذلك فإن قواطعها الأمامية السفلى تحولت إلى أنصال خنجرية الشكل.
وعلى هذه الأسس اقتنعتُ وآخرون أن الكناگر الجرذية العملاقة لا تدقق كثيرا في غذائها، فهي تأكل اللحوم إذا توفرت، مستكملة غذاءها بمواد نباتية متنوعة. وقد روّعت هذه الخوارج renegades من عشيرة الكنگر القارةَ الأسترالية 25 مليون سنة على الأقل، ولم تندثر إلا في وقت ما خلال الـ 40000 سنة الماضية.
ولو قيض لإنسان أن يقحم نفسه في أستراليا العصر الميوسيني لكان عليه أن يحذر الكناگر الآكلة للحوم، وأن يتحاشى الأغصان الجانبية المنخفضة؛ إذ كانت الأشجار مأوى لمفاجأة أخرى غير سارة: الأسود الجرابية. فقد نشأت أنواع «أسود» العصر الميوسيني الأربعة، مثلها مثل الكناگر الجرذية العملاقة، من أنواع مسالمة من آكلات النبات. إن لأكثر الأنواع بدائية أضراسًا طاحنة كتلك التي تميز القوارت omnivores، إضافة إلى قواطع التمزيق؛ أما في الأنواع الأخرى فالأضراس الطاحنة مختزَلة أو غائبة، في حين تضخمت الأسنان التي تمزق اللحم.
لقد تم وصف ثمانية أنواع على الأقل من الأسود الجرابية، وتقوم حاليا <A.گِيلِسْپي> [من جامعة نيوساوث ويلز في سيدني] بدراسة نوعين آخرين. لقد كان تفسير بيولوجية الأسود الجرابية على مدى التاريخ أمرا مثيرا للنزاع، وهي كجرابيات وُمْباتِيّة الشكل فإن أقرب أقاربها التي مازالت حية هي الكُوالات koalas والوُمْباتيات wombats. وقد رفض بعض علماء الأحافير الأوائل، متحيزين للقرابة الوثيقة لهذه «الأسود» بالجرابيات العواشب، التسليم بإمكانية أن تسلك سلوك اللواحم، وقدموا سيناريوهات متنوعة بعيدة الاحتمال تبلغ ذروتها باقتراح أن تلك المخلوقات تخصصت في مضغ البطيخ والشمام (ولأن الأسنان كانت بالكاد تستطيع الطحن، فمن المفترض أن الغذاء كان ليِّنا نوعا ما!). وفي الوقت الحاضر يتفق العلماء على أن الأسود الجرابية كانت بالفعل قاتلة. ويعتبر الكثيرون أن أحدث الأنواع (ثيلاكوليو كارنيفكس Thylacoleo carnifex) كان أكثر الثدييات اللاحمة تخصصا على الإطلاق، فقد استغنى تماما عن الأسنان التي تتعامل مع النباتات، في حين كان تطور أسنان التمزيق لديه لا مثيل له؛ إذ لم تكن له أنياب كبيرة ولا بد أنه استخدم قواطعه الطويلة للقتل.
وكذلك يعتبر الثيلاكوليو كارنيفكس الأسدَ الجرابي الوحيد الذي تعرفناه من خلال هيكل عظمي كامل. وقد اقترح كثير من الباحثين أنه كان في حجم ذئب ضخم أو نمر. ويعتقد آخرون، بمن فيهم أنا، أن هذه التقديرات لا تفسر القوة البالغة لهيكله العظمي. فلعل هذا الحيوان المخيف كان في وزن الأسد المعاصر؛ إذ كان بنيانه مصمَّما لتحقيق القوة وليس التحمل والبقاء، وكانت له أرجل أمامية ضخمة قوية العضلات. ولا بد أن هذا الحيوان، كان سيغدو ضاريا مروعا لو حل في أي قارة، فلقد توفرت له أسنان تشبه قاطعات البراغي الغليظة، ومخلبان ضخمان مغمدان (يشبهان المدية ذات الكباس(10))، مثبتان في نهايتي إبهاميه اللذين يكادان يقابلان أصابعه الأخرى.
الجرابيات المنقضّة
لا شك أن الثيلاكوليو كارنيفكس كان مهيأ لتناول فرائس كبيرة نسبيا، ربما أكبر منه نفسه. ولا يتضح لنا الهدف الحقيقي من تملكه مخلبا في إبهامه وفيما استخدمه، ولكن هناك شيئا واحدا يبدو مؤكدا: إن مجرد الوقوع في القبضة القوية لأسد جرابي ضخم لا يعطي فرصة للبقيا سوى للقليل من الحيوانات.
كانت أنواع الأسد الجرابي المعروفة باسم واكاليو Wakaleo أصغر حجما، في حجم النمر تقريبا. ولأنها لم تكن مهيأة للسرعة ولكنها شديدة القوة، فقد تكون أنواع الواكاليو (وربما الثيلاكوليو أيضا) متخصصة بالانقضاض من الجو؛ فهي ربما كانت تقذف بنفسها، مثل النمر، من على الأشجار فوق فريسة لم يخامرها الارتياب. وعلى الطرف الآخر من الميزان، فإن (پريسيليو روسكيليي Priscileo roskellyae) والذي يقترب في حجمه من السنور المنزلي، ربما ركز غالبا على تناول الفرائس التي تعيش بين الأشجار. وأعتقد أن الأسود الجرابية الأضخم، بما أوتيت من حجم كبير وتكيفات تحقق ضراوة شديدة، حافظت على الأرجح على وضعها فوق قمة الهرم الغذائي الأسترالي. وعاش الثيلاكوليو كارنيفكس على الأقل حتى 50000 سنة مضت، وهي فترة حديثة ربما سمحت له بالاغتذاء بالبشر.
سادت الذئاب الجرابية في أرضية الغابة. وعندما وصل الأوروبيون إلى أستراليا قبل أكثر من 200 سنة لم يجدوا سوى فصيلتين من الجرابيات ممثلتين بلواحم، إحداهما هي «الذئاب» ـ لم يبق منها غير النمر التسماني، أما الأخرى فتضم مجموعة أكثر عددا هي الداصيوريدات. وتقدر هذه الحيوانات الضئيلة الحجم غالبا، وإن كانت مشاكسة، بالغرامات وليس بالكيلوغرامات، وقد تم وصف أكثر من 60 نوعا منها مازالت على قيد الحياة.
وبسبب السيادة الواضحة للداصيوريدات من حيث تعدد الأنواع في الأزمنة الحديثة، فقد توقع علماء الأحافير أنها كانت أيضا أكثر شيوعا من الثيلاسينيدات في الماضي البعيد. ولكننا كنا مخطئين، فمنذ عام 1990 تم العثور على سبعة أنواع جديدة من «ذئاب» العصر الميوسيني ليصل مجموع أنواع الفصيلة إلى تسعة (بما فيها النمر التسماني)، وفي الطريق وصف لأربعة أنواع أخرى. وعلى الجانب الآخر، تم وصف داصيوريدي واحد مؤكد الهوية من ترسّبات العصر الميوسيني، وهناك عدد قليل من الأنواع تم تعرّفها من عينات مفتتة، قد يثبت في النهاية أنها داصيوريدات؛ ومع ذلك فإن نسبة الذئب الجرابي إلى أنواع الداصيوريدات خلال العصر الميوسيني تتباين بشدة مع هذه النسبة في الأزمنة الحديثة.
إن النمر التسماني هو الثيلاسينيدي الوحيد الذي تتوفر لدينا معلومات مباشرة عن بيولوجيته وسلوكه، ويجب أن يؤخذ معظمها بشيء من التحفظ. ولكن من المؤكد إلى حد بعيد أن النمر التسماني كان يشبه معظم الكلبيات في كونه أرضيا خالصا (أي إنه لا يتسلق الأشجار ويعيش على الأرض فقط)، وكان طويل الخطم وربما نزع إلى تناول فرائس أصغر منه بكثير، واختُلف في كونه مهيأً للعدو على نحو ضعيف. ولم يكن من جماعات الصيد، كما اختلف عن معظم الكلبيات في أن أسنانه الوجنية كانت مهيأة للتغذية اللاحمة تهيئة كاملة.
إن النسق السني في الثيلاسينيدات والداصيوريدات يختلف عن مثيله في اللواحم الأخرى، فهذه الحيوانات تحتفظ بمقدرة كل ضرس على الطحن وعلى التقطيع الرأسي (العمودي)، ولذلك نجد في هذا النوع من اللواحم المتخصصة أن السطوح الطاحنة لكل ضرس قد اختزلت، في حين زادت المقدرة على القص الرأسي.
طائر قاتل؟
في الشهر 11/1998 وصف <P.موراي> و<D.ميگريان> [من المتحف المركزي الأسترالي] عينة أحفورية جديدة من طائر أرضي منقرض يسمى بلّوكورنيس پلاني Bullockornis planei. ينتمي هذا النوع إلى الفصيلة الأسترالية درومورنيثيدي Dromornithidae وتسمى أيضا طيور الرعد Thunder Birds، وهي معروفة منذ عام 1839. وربما تكون الدرومورنيثيدات ضخمة الحجم، إذ قد يزن بعضها 500 كيلوغرام أو أكثر. ولم يكن ذكر الكثير عن بيولوجية هذه الطيور على نحو يقيني، بالنظر إلى أن عينات جماجمها التي حفظت كانت محدودة جدا. ولهذا السبب، واستنادا إلى الرأي السائد بأن الدرومورنيثيدات كانت وثيقة القرابة بطيور اغتذت بشكل رئيسي بالنباتات، فإن معظم العلماء تبنوا فكرة أن هذه الطيور العملاقة كانت عاشبة. غير أن إعادة البناء الممتازة للطائر بلوكورنيس پلاني التي قام بها موراي كانت مذهلة؛ فقد أوضحت أن الطائر امتلك رأسا ضخما ربما بلغ طوله أكثر من نصف متر، إضافة إلى أن مواضع اتصال العضلات كانت ضخمة. ويثور السؤال: ماذا يأكل طائر يزن نصف طن، له عضلات فكية بالغة القوة ومنقار يمكن أن يخفي كرة قدم؟
في عام 1991 وبشكل مقنْع برهن <M.L.ويتمر> [وهو الآن بكلية أوهايو الجامعية لطب تقويم العظام] و<D.K. روز> [من كلية الطب بجامعة جونز هوپكنز] أن المنقار الضخم والعضلات الفكية للطائر دياتريما Diatryma، وهو طائر منقرض من أمريكا الشمالية وأوروبا، كانا يمكن أن يشكلا مبالغة في التصميم overdesign خطيرة ما لم يكن الطائر من اللواحم. وامتدادا لهذا الاتجاه في التفكير، فقد اقترحتُ مؤخرا أن بعض الدرومورنيثيدات على الأقل قد قَمّت أو تغذّت بحيوانات فقارية مقتولة. وإذا كان الأمر كذلك فإن طيور الرعد كانت أضخم لواحم لها رجلان منذ اختفاء الدينوصورات اللواحم.
في الواقع، لقد كانت جميع الذئاب الجرابية لاحمةً إلى حد كبير، على الرغم من أن أنواعها الأصغر حجما والأقل تخصصا ربما اغتذت أيضا بالحشرات، كما أن عددا من هذه الحيوانات قد حاد بدرجة أكبر عن النموذج الكلبي، فقد كانت بعض ذئاب العصر الميوسيني صغيرة مقارنة بالنمر التسماني، وكان لأحدها (وابولاسينس ريدي Wabulacinus ridei) جمجمة قصيرة تشبه كثيرا جمجمة السنور. ونحن لا يمكننا حتى أن نجزم بأن جميع ثيلاسينيدات العصر الميوسيني كانت أرضية (تعيش على الأرض)، إذ لم يُعرف من معظمها إلا كِسَر من الجماجم والفكوك. وكان الاستثناء الرائع من ذلك حالة فرد عمره 15 مليون سنة اكتُشف حديثا في ريڤرسليه، جمجمته ومعظم هيكله العظمي محفوظان بصورة جيدة، ويمكننا أن نؤكد بدرجة معقولة من اليقين أن هذا الحيوان بالذات قد عاش على أرض صلبة.
في الشهور القليلة الماضية قمتُ مع <H.گودثلب> [من جامعة نيوساوث ويلز] و<M.آرشر> بوصف حيوان جرابي في حجم الفأر من ترسّبات يبلغ عمرها نحو 55 مليون سنة في مورگون جنوب شرقي كوينزلاند. ويتبع هذا النوع الجديد النظامَ العام للتسنين(11) إلى أبعد حد، وهو في الواقع بدائي لدرجة أنه يصعب التحقق من قرابته للجرابيات الأخرى؛ وربما يمثل سلفا للثيلاسينيدات والداصيوريدات، أو حتى لجميع الجرابيات الأسترالية. والاحتمال البديل هو أن هذا النوع الجديد لا ينتمي إلى الأستراليدلفيا Australidelphia (وهي مجموعة تصنيفية تضم جميع الجرابيات الأسترالية الحية) ولكن إلى المجموعة الأمريكية الجنوبية ـ الأميريدلفيا Ameridelphia.
ففي وقت ما كانت أمريكا الجنوبية وأستراليا متصلتين معا في ما عرف بقارة گوندوانا Gondwana، عن طريق القارة القطبية الجنوبية. ويُعتقد أن الجرابيات وصلت إلى أستراليا من أمريكا الجنوبية. واقترح بعض العلماء أن الثدييات الأستراليدلفية دخلت إلى أستراليا قبل أن تتجزأ گوندوانا بالكامل، ويعتبر هذا الاستنتاج مبتسرا وسابقا لأوانه في ضوء الأحافير التي عثر عليها حديثا.
الموت للقتلة
بعد أن دلل علماء الأحافير على أن اللواحم الجرابية الأسترالية الضخمة كانت كثيرة التنوع خلال العصر الميوسيني، فإنهم يواجهون الآن هذا السؤال: ماذا حدث لها؟ لقد انقرضت آخر الأسود الجرابية والكناگر الجرذة العملاقة (ثيلاكوليو كارنيفكس وپروپليوپس أوسيلانس على التوالي) منذ فترة غير طويلة، ومن المحتمل أنها كانت موجودة هنا وهناك عندما دخل الأروميون(12) الأوائل إلى أستراليا قبل نحو 50000 سنة أو أكثر. وبناء على ذلك يعتقد بعض العلماء أن الإنسان الأول هو الذي دق ناقوس انقراضها.
لقد كان من المستحيل إثبات أو نفي مدى استحقاق الإنسان للّوم في هذا الشأن، وبقي ذلك موضوعا مثيرا للجدل. لا شك أن الأروميين ساعدوا على اندثار النمر التسماني بإدخالهم كلب الدنگو، إلا أن تأثيرهم بالنسبة إلى الأنواع الأخرى أقل وضوحا. قد تبقى هذه النقاط إلى الأبد من دون حل، إلا أن السجل الأحفوري يوضح حقيقة واحدة: إن تنوع اللواحم الجرابية وصل إلى ذروته في الفترة الممتدة من بداية العصر الميوسيني إلى منتصفه، وكان قد انحدر بشدة قبل وصول الإنسان بمدة طويلة. وعلى سبيل المثال فهناك على الأقل خمسة ذئاب جرابية عاشت خلال منتصف العصر الميوسيني، وتواجد معها اثنان آخران في أواخر ذلك العصر، إلا أن واحدا فقط كان معروفا للإنسان.
من الواضح أن عاملا آخر ـ خلاف الإنسان ـ كان له أثره، فربما انحصر عمل الأروميين في تسريع عملية اندثار كانت قد ترسّخت بالفعل منذ فترة طويلة، والعامل البديل الأكثر احتمالا هو الجفاف. فبداية من منتصف العصر الميوسيني تعرضت أستراليا لظروف العصر الجليدي التي تزايدت قسوتها بالتدريج، مع انخفاض كميات الأمطار ومستوى سطح البحر. وزاد هذا الاتجاه نحو الذروة على مدى المليوني سنة الماضية، صاحبه خلالها نحو 20 عصرًا جليديا، مما عرّض الفونة الأسترالية إلى كرب stress كبير. لقد كان آخر هذه العصور قاسيا، غير أنه لم يكن الأسوأ.
يعتقد كثير من الباحثين أن تضافر كل من التغيرات المناخية والضغوط الناجمة عن مجيء الإنسان قد أدى إلى اختفاء معظم العواشب الضخمة التي كانت باقية على قيد الحياة في القارة. ومع اختفاء أطباق اللحم المحببة لهم، بدأت نهاية زمن الضواري الجرابية الأسترالية. ومن الحقائق المحزنة أن من بين عشرات اللواحم الجرابية الضخمة المدهشة التي عاشت (ليس فقط في أستراليا، بل أيضا في الأمريكتين) لم يتبق سوى الداصيور الأرقط الذيل وشيطان تسمانيا، ولا بد أن يتحمل سكان أستراليا غير الأصليين مسؤوليتهم عن الفقد غير المُغْتَفَر للنمر التسماني. ولن تَغفر لنا الأجيال بالتأكيد إذا سمحنا لنفس الكارثة أن تتكرر مع جِرابِيَّيْنا القاتلين الأخيرين.