ُقال ابن المبارك رحمه الله تعالى
قدمت مكة، فإذا الناس قد قحطوا من المطر، وهم يستسقون في المسجد الحرام
وكنت في الناس من باب بني شيبة، إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتان من خيش، قد ائتزر
بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقيه، فصار في موضع خفي إلى جانبي، فسمعته يقول
إلهي، أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ العيوب، وقد منعتنا غيث السماوات لتؤدب
الخليقة بذلك، فأسألك يا حليم، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل، اسقهم الساعة الساعة
قال ابن المبارك
فلم يزل يقول اسقهم الساعة الساعة، حتى انسدّ الجو بالغمام، وأقبلت قطرات الركام تهطل
كأفواه القرب، وجلس مكانه يسبّح الله تعالى، فأخذت في البكاء، حتى قام فاتبعته حتى
عرفت مكان اقامته. ثم ذهبت مسرعاً إلى الفضيل بن عيّاض
فقال لي ما لي أراك كئيبًا؟
فقلت له سبقنا إليه غيرنا، فولاه دوننا.
قال وما ذلك؟
فقصصت عليه القصة فسقط في الأرض، وقال ويحك ابن المبارك، خذني إليه
فقلت قد ضاق الوقت، سأبحث عن شأنه
فلما كان من الغد خرجت الى مكان اقامة الصبي، فإذا بشيخ على باب، وقد بُسط له
وهو جالس فلما رآني عرفني، وقال مرحبًا بك يا أبا عبد الرحمن، ما حاجتك؟
فقلت احتجت إلى غلام، فقال عندي كثير، فاخبرني أيهم شئت
فما زال يُخرج الغلمان واحدًا بعد واحد، حتى أخرج إليً الغلام الذي أُريد، فلما أبصرته
بدرت عيناي بالدموع وقلت نعم هذا هو
فقال ليس لي إلى بيعه سبيل.
فقلت ولم؟
قال قد تبرّكت بموضعه في هذه الدار
فسألته ومن أين طعامه؟
فقال يكسب من فتل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر، فهو قوته إن باعه في يومه
وإلا طوى ذلك اليوم ( اي بات من غير طعام )
وأخبرني الغلمان الذين معه انه مهتم بنفسه، لا ينام في الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم
وسألت فيه بإلحاح، وزاد إصراري أمام سيده انني لن آخذ غيره فاستسلم الرجل أخيراً
وقال لي إن ممشاك عندي كبير، خذه بما شئت.
فاشتريته ثم قلت له إمض بنا الى دار الفضيل، فمشينا ساعة
فقال لي يا مولاي
فقلت له لبيك
فقال لا تقل لبيك، فإن العبد أولى بأن يلبي من المولى.
قلت وما حاجتك ؟
قال أنا ضعيف البدن، لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، قد أخرج لك مالكي
السابق من هو أجلد مني وأثبت ولكنك لم تختر غيري !!
فقلت له لا يراني الله تعالى أستخدمك، ولا كان اشترائي لك إلا لأنزلك منزلة اولادي
ولأزوّجك، وأخدمك أنا بنفسي.
قال ابن المبارك فبكى الغلام ، فقلت له وما يبكيك؟
قال لي أنت لم تفعل هذا، إلا وقد رأيت بعض اتصلاتي بالله تعالى،
وإلا، فلم أخذتني من أولئك الغلمان؟
فقلت له ليس لي بك حاجة إلا هذا.
ثم قال لي أترى أن تقف عليّ قليلا ؟ فإنه قد بقي عليّ ركعات من البارحة.
قلت قد وصلنا لمنزل الفضيل
قال لا . بل هاهنا أحبّ إليّ. إن أمر الله تعالى لا يؤخر
فدخل المسجد، فما زال يصلي حتى أتى على ما أراد، فالتفت إليّ
وقال يا أبا عبدالرحمن، هل لك من حاجة؟
قلت ولم؟
قال لأني أريد الانصراف
قلت إلى أين؟
قال إلى الآخرة.
قلت لا تفعل دعني أنتفع بك.
فقال لي إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبين الله تعالى،
فأما إذا اطلعت عليها أنت، سيطّلع عليها غيرك، فلا حاجة لي في ذلك
ثم خرّ على وجهه، وجعل يقول إلهي اقبضني الساعة الساعة
فدنوت منه، فإذا هو قد مات.
قال ابن المبارك رحمه الله تعالى
فوالله ما ذكرته قط إلا طال حزني، وصغرت الدنيا في عيني، وحقرت عملي