وأردف الأب ستيفانو قائلاً: هل بقي باب من أبواب الرحمة لم يعلِّمه محمد الناسَ في مدرسته؟.
قلت: إن كنتَ مُصرّاً على المتابعة فهناك باب من أبواب الرحمة كثيراً ما تفاخر به الغرب في هذه الأيام، ليغطي على قسوته في غيره من مجالات الرحمة الإنسانية. وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلِّمه الناسَ في مدرسته قبل أكثر من /1400 عام/.
قال: وما هو هذا الباب؟.
قلت: إنه لا يختص بالرحمة ببني البشر.
قال: بِمَ يختص إذاً؟.
قلت: إنه يختص بالرحمة بالحيوان.
فقال متعجباً: الرحمة بالحيوان! إنا كنا نحسب أن جمعيات الرفق بالحيوان هي من خصائص الحضارة الغربية في العصر الحديث.
قلت: هل أنت جادٌّ في هذا؟
قال: كان يمكن أن أكون جادّاً، لولا أنني أرى الغربَ الذي يتورع اليوم عن إيذاء أو قتل هِرٍّ أو كلب، لا يتورع عن إبادة شعوب بأكملها من بني البشر، إن هو شمَّ رائحة النفط في أعماق أرضها، كما فعل في العراق! أو لمح بريق معدن ثمين داخل حدود دُوَلها، كما فعل في إفريقية!.
بل هو يعمل على إبادة سكان فلسطين الأصليين، ليسلبهم أرضهم ويعطيها للغرباء.. وما أَمْرُ إبادة الهنود الحمر في القارة الأمريكية عنا ببعيد!!
قلت: صدقتَ أيها الأب ستيفانو، وما أحراك أن تقول كلمة حق في وجه سلطان جائر.
وأردفت: إذاً بماذا تفسر العناية بحقوق الحيوان في الغرب الحديث، إلى جانب إهدار حقوق الإنسان الآخر؟
فتفكّر قليلاً، ثم قال: التفسير الوحيد لهذا التناقض، هو أن الغرب كغيره من سكان هذا العالم، فيه عنصر الخير، وفيه عنصر الشر. لكنَّ عنصر الشر اليوم في الغرب، متغلب على عنصر الخير. ولعل دعاة الرفق بالحيوان من الغربيين، يستطيعون أن يكونوا أيضاً دعاةً إلى الرفق بالإنسان الآخر، وعندها يصبح عنصر الخير من القوة بحيث يستطيع أن يقول لعنصر الشر: لا.
* * *
قلت: وقبل حوالي /1400 عام/ من وجود جمعيات الرفق بالحيوان في الغرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّم تلاميذه في مدرسته، كيف تكون الرحمة بالحيوانات.. وبخاصةٍ الحيوانات التي يستفيد الإنسان منها. سواء في الركوب والعمل، أو في الطعام، فيقول: « اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة»[1]. أي لِيَكُنْ تعاملكم معها تعامل إصلاح لا تعامل إفساد، وتعامل الإصلاح لا يكون إلا مع الرفق والرحمة.
قال: وكيف يتمّ تعامل الإصلاح مع هذه الحيوانات؟
قلت: أما الحيوانات المهيأة للركوب أو العمل، فقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يستخدموها فيما هُيِّئَتْ له بالطرق المعروفة.. وقد كان من عادة بعض الناس أن يستخدموا ظهورها إما للراحة، بالجلوس عليها وهي واقفة أو باركة، وإما لوقوف الخطباء على ظهورها ليراهم السامعون. وهي في كلتا الحالتين تستخدم في غير ما هيئت له، ففي الحالة الأولى استخدمتْ كراسي للراحة! وفي الحالة الثانية اتُّخذت منابر للخطابة! وهي وإن كانت صامتة لا تشكو، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشعر بأنها تتأذى من هذه الأوضاع غير الطبيعية بالنسبة إليها. ولهذا قال: «اركبوا هذه الدواب سالمة، وايتدعوها - أي رفِّهوها - سالمة ولا تتخذوها كراسي»[2].
وقال: «إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله تعالى سخرها لكم لتُبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض، ففيها فاقضوا حاجاتكم»[3].
* * *
فقال الأب ستيفانو: ما أجمل اللمسات الرحيمة! لكن ألا ترى معي أن من تمام الرحمة بالحيوان المعدِّ للركوب أو العمل أن نعتني بطعامه وشرابه، وأن لا نحمّله فوق طاقته؟.
قلت:بلى، وما كان صلى الله عليه وسلم ليُغفل هذا من تعاليمه، فقد روي عنه أنه دخل ذات مرة بستاناً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رآه الجمل حنَّ وجرجر وذرّفت عيناه، كأنه يشكو، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفراه - أي ما بين أذنيه - فسكتَ البعير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ربُّ – صاحب - هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إيّاها؟! فإنه شكا إلي أنك تُجيعه وتُدئبه - أي تُتعبه -»[4].
* * *
قال: لقد تمَّت الرحمة بالحيوانات المعدّة للركوب أو العمل، في مدرسة محمد. فكيف بالحيوانات المعدَّة للطعام؟
قلت: إن أهم مظهر للرحمة بهذا النوع من الحيوانات، بعد العناية بطعامها وشرابها، هو أن نرحمها عندما نذبحها.
قال: وكيف علّم محمد في مدرسته الرحمة بها عند الذبح؟
قلت: روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه «مرَّ على رجل واضعاً رجله على صفحة شاة وهو يحدُّ شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال له: أفلا قبل هذا - أي أفلا حددت شفرتك بعيداً عنها قبل أن تضجعها للذبح - أتريد أن تميتها مرتين»[5].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته، فلْيُرِح ذبيحته»[6].
* * *
وأردفتُ: وبعد أن علّم صلى الله عليه وسلم الناس كيفية الرحمة بالذبائح، بشرهم بثواب هذه الرحمة إن هم عملوا بها. فقد جاءه مرَّةً رجل فقال: يا رسول الله، إني لأذبح الشاة فأرحمها. قال: «والشاة إن رحمتها رحمك الله»[7].
وأكَّد صلى الله عليه وسلم على هذه الرحمة وعلى ثوابها فقال: «من رَحِم ولو ذبيحة عصفور، رحمه الله يوم القيامة»[8].
فقال الأب ستيفانو: لَشتَّان ما بين هذا الذَّبح الرحيم الذي علّمه محمد الناس في مدرسته، وبين ما يقوم به بعض الغربيين عندما يقتلون عجول البحر ضرباً بالعصي على رؤوسها حتى الموت! بلا رأفة ولا رحمة.
قلت: أتدري ما حكم لحوم مثل هذه الذبائح في مدرسة محمد؟
قال: ما حكمها؟
قلت: حكمها التحريم! فلا يجوز للمسلم الأكل من لحومها، عملاً بالآية القرآنية التي تقول: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنـزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾[9]، فالموقوذة: هي المضروبة بالعصا حتى الموت.
قال: ليت جمعيات الرفق بالحيوان اليوم في الغرب، تتنبه لمثل هذا من أعمال القتل والذبح غير الرحيم للحيوانات.
* * *
قلت: وليس أمر الذبح فقط، بل كلُّ إساءة توجَّه إلى هذه الحيوانات، فتدل على القسوة وتنأى عن الرحمة، هي ممنوعة في مدرسته صلى الله عليه وسلم، فقد مرّ ذات يوم على حمار قد وُسِمَ - أي كُوِيَ - في وجهه، فقال: «لعن الله الذي وسَمه»[10].
ولاحَظَ أن بعض الناس يتخذون من بعض الحيوانات هدفاً يتدربون عليه في رمي السهام - أو غيرها - فنبّه إلى ما في هذا من قسوة على الحيوان وبعدٍ عن الرحمة به، ونهى عنه. فقد روى ابن عمر قال: «لَعَن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً»[11].
وروى سعيد بن جبير قال: «مرّ ابن عمر بنفرٍ قد نصبوا دجاجة يترامونها، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَعَن من فعل هذا»[12].
* * *
قال الأب ستيفانو: وإذا لم تكن الحيوانات مهيئة للركوب أو العمل أو الطعام، فهل تنالها رحمة محمد؟
قلت: أجل، فقد روى أحد الصحابة قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمرة - طائر صغير لونه أحمر - معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش - أي ترفرف قريباً منهم - فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا إليها ولدها.
ورأى قرية نملٍ قد أحرقناها فقال: من حرق هذه؟. قلنا: نحن. قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا ربّ النار»[13].
وأردفت: ولم يكن صلى الله عليه وسلم يكتفي بملاحظة الواقع فقط في أمر هذه الحيوانات، بل كان يضرب للناس الأمثلة التي تبقى عالقة بالأذهان مهما طال الزمن.. فقد قال ذات مرة، مخوِّفاً من القسوة على هذه الحيوانات: « عُذّبت امرأة في هرّة سجنتها حتى ماتت، فدخلت النار. لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»[14].
وفي مرة أخرى ضرب للناس مثلاً آخر، فقال مرغباً الناس برحمة هذه الحيوانات: «بينما رجل يمشي في طريق، إذ اشتدّ عليه العطش، فوجد بئراً، فنـزل فيها فشرب وخرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني. فنـزل البئر فملأ خفّه ثم أمسكه بفيه حتى رقي.. فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كل كبدٍ رطبةٍ أجر»[15].
* * *
وأردفتُ: ولم تكن هذه الأمثال بعيدة عن ممارسته العملية صلى الله عليه وسلم، فقد روت زوجته السيدة عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي – يُميل – الإناء للهرة حتى تشرب، ثم يتوضأ بفضلها»[16].
* * *
قال الأب ستيفانو بعد تفكُّرٍ قليل: إذاً صدقَتْ البريطانية الباحثة في الأديان (كارين أرمسترونغ) فيما قالته في كتابها (محمد).
قلت: وماذا قالت؟
قال: لقد لخَّصَتْ ما عرفَتْه عن رحمة محمد بالحيوان، بعد أن بيّنتْ جهل الغرب بمحمد الرحيم فقالت: « لقد دأبنا في الغرب على مرّ القرون، على أن نتصور محمداً في صورة الرجل الجهم والمحارب القاسي، والسياسي البارد. ولكنه كان رجلاً يتميز بأقصى درجات الشفقة ورقة المشاعر. فكان على سبيل المثال: محباً للحيوان، فإذا رأى قطة نائمة على بُردته، تركها وكره أن يقلقها. وقد قيل: إن أحد معايير تقدم المجتمع هو موقفه من الحيوان، وجميع الأديان تحثُّ الناس على حبّ العالَم الطبيعي واحترامه. وكان محمد يحاول تعليم المسلمين هذا السلوك.. وقد حظر محمد وَسمَ الحيوانات وَسماً يتسبب في إيلامها، وحظر تنظيم مسابقات اقتتال الحيوان»[17].
ثم تفكَّر الأب ستيفانو قليلاً قبل أن يقول: بعد كل ما حدثْتَني به، لقد تركْتَني أتساءل: هل هناك مخلوق لم تشمله رحمة الله على يد محمد وتلاميذ مدرسة محمد؟!
[1] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم/23.
[2] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم/21.
[3] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم/22.
[4] صحيح الترغيب والترهيب للألباني الحديث رقم/2269 وقال عنه: صحيح - وهو في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم /2549 - وفي رياض الصالحين برقم /967 - وفي السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم/20.
[5] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /24.
[6] صحيح مسلم الحديث رقم/3615.
[7] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم/26.
[8] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم/27.
[9] المائدة /3.
[10] صحيح الترغيب والترهيب للألباني الحديث رقم /2293 وقال عنه: صحيح.
[11] صحيح وضعيف سنن النسائي الحديث رقم /4441-4443/وقال عنه: صحيح.
[12] خرّجه الألباني في (غاية المرام) الحديث رقم /382 وقال عنه: صحيح.
[13] انظر السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم/25-487.
[14] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /28.
[15] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /29 وانظره في صحيح البخاري الحديث رقم /5550 وفي صحيح مسلم الحديث رقم /4162.
[16] رواه الدارقطني – وقد أورد الألباني في (إرواء الغليل) حديث أبي قتادة مرفوعاً وفيه: «فجاءت هرة فأصغى لها الإناء حتى شربت وقال: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» الحديث رقم 173 وقال عنه: صحيح.
[17] ص 344.