نظرات في غزوة تبوك
ــــــــــــــــــــــ
رُوحِي الفِدَاءُ لِمَنْ أَخْلاقُهُ شَهِدَتْ *** بِأَنَّهُ خَـيْرُ مَبْعُـوثٍ مِنَ البَشَرِ
عَمَّتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ البِـــلادِ كَمَا *** عَمَّ البَرِيَّةَ ضوء الشَّمسِ وَ القَمَرِ صلوات
الله وسلامه عليه ، ما هَطَلَتْ الغمائم بالمطر ، وما هَدَلَتْ الحمائم
على أفنان الشجر ، العَيْش في سيرته عَيْشٌ رَغِيد سعيد ؛ هِداية و نور و
حضور و بِشْر و سرور، ما أحرانا و نحن في هذه الأيام العَصِيبة أن نخترق
أربعة عشر قرنًا ؛ لنعيش يومًا من أيام محمد –صلى الله عليه وسلم- ، بل
ساعة من سُوَيْعاته الثمينة ، لنأخذ العِبرة و الدروس من تلك الساعة في هذه
الساعة :
اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِــبَرْ *** ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَــبَرْ
عَوْدًا
بكم إلى السنة التاسعة للهجرة ، والعود أحمد ؛ لنعيش معكم أحداث غزوة
العسرة التي تساقط فيها المنافقون ، وثبت فيها المؤمنون ، وذَلَّ فيها
الكافرون ، ما السبب وما الأحداث ؟ ما آيات النبوة فيها ؟ ما الدروس
المستفادة ؟ إليكموها ، فاسمعوها وعُوها واعتبروا بما فيها ، واسألوا
التاريخ عنا كيف كنا ؟ نحن أسسنا بناءً أحمديًا .
بلغ
النبي- صلى الله عليه وسلم- أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة
الإسلامية في ذلك الوقت ، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم ؛ لكونه قد
أذاقهم مرارة غزوة <مؤتة> التي جلبوا لها مائتيْ ألف ، ولم يتمكنوا
من إبادة ثلاثة آلاف مقاتل ؛ بل ولا هزيمتهم ، فيا للَّه !!
كنا جبـالا في الجبـال و ربمـا *** صـرنا على موج البحـار بحـارا
عند
ذلك أعلن النبي- صلى الله عليه وسلم- ولأول مرة عن مقصده ، وأعلن التعبئة
العامة فتجهز أقوام و أبطأ آخرون ، تجهز ثلاثون ألف مقاتل قد باعوا أنفسهم
من الله ، وأعلنوا نصرة لا إله إلا الله . تساقط المنافقون ، ومن يرد الله
فتنته فلن تجد له سبيلا . هاهو أحد المنافقين يقول المصطفى- صلى الله عليه
وسلم- له : هل لك في جلاد بني الأصفر يعني الروم فيقول : يا رسول الله
ائذن لي ولا تفتني ؛ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبًا بالنساء
منِّي ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر . فَرَّ من الموت وفي
الموت وقع ، أعرض عنه- صلى الله عليه وسلم- وعذَره ، لكن الذي يعلم خائنة
الأعين ، و الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فَضَحَهُ
–وأذلَّه- وأنزل فيه قرآنًا يُتلى . ( وَ مِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لي
وَ لاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) و يتخلف أناس آخرون عن الخروج ، لا رغبةً
بأنفسهم عن نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لكن غلبتهم نفوسهم لصعوبة
الظرف واشتداد الحرب . قد آن أوان الرطب وظلال الأشجار ، فاعتذروا بعد
عودة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- و قَبِل عُذْرَهم ، وتاب الله عليهم
وأرجأ توبة ثلاثة منهم امتحانًا لهم فَمُحِصُوا حتى ( ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ
الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا
أَلاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
لِيَتُوبُوا إِنَّه تَّوَّابُ رَّحِيمُ ) يأتي سبعة رجال مؤمنون صادقون ،
لكنهم فقراء لم يجدوا زادًا ولا راحلة ، و عز عليهم التخلف ، نياتهم صادقة
لكن ليس هناك عدة ، فأتَوْا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون : يا
رسول الله لا زاد ولا راحلة ، ويبحث لهم- صلى الله عليه وسلم- عن زاد و
راحلة فلا يجد ما يحملهم عليه فيرجعوا . ( وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ) بالله ظلّ السيف
للمسلم مثل ظل حديقة خضراء ، تنبت حولها الأزهار ، وتدنو ثمار المدينة
ويشتد الحر ، ويبتلي الله من يشاء من عباده ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن
يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) و يخرج- صلى
الله عليه وسلم- و يستخلف على أهل بيته عليًا - رضي الله عنه- ويخيم رسول
الله- صلى الله عليه وسلم- في <ثنية الوداع> و معه ثلاثون ألفًا ، و
يأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم و إرجافهم على مر الأيام ،
يلاحقون أهل الخير والاستقامة ، يلمزون و يهمزون و يتندرون و يسخرون ، سخر
الله منهم ، و يستهزئون ، و الله يستهزئ بهم ، يأتون إلى عليٍّ- رضي الله
عنه- ويقولون : ما خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استثقالا لك ؟
يريد التخفف منك ، و عليٌّ بَشَرٌ تأثَّر لذلك ، ولبس دِرعه ، وشَهَرَ سيفه
يريد الجهاد في سبيل الله ، ويلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويعتنق
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويقول : يا رسول الله زَعَم الناس أنك
استثقلتني فخلفتني في النساء والصبيان فتهراق دموعه- صلى الله عليه وسلم-
ويقول : " كذبوا يا عليُّ فاخلفني في أهلك وأهلي ، أما ترضى أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى ؟! إلا أنه لا نبي بعدي" . فيقول بلسان الحال: بلى
رضيت ، بلى رضيت ، وعاد عليُّ -رضي الله عنه-
يَدعُـو جَهارًا: لا إلهَ سِوى الذِي *** خَلَقَ الوُجُـودَ وقَـدَّرَ الأقْـدَارَا .
و
قبل مسير الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم- تقوم فرقة للصَدِّ عن سبيل
الله ، تُثبِّط الناس بعد أن اجتمعوا في بيت أحدها ، تقول- و هي تزهد في
الجهاد- : لا تنفروا في الحَرِّ ، تشكك في الحق وترجف برسول الحق ، ويتولى
الحق -سبحانه- الرد : ( و َقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ
جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) هم في مؤامرة
الصَدِّ عن سبيل الله ، ويأمر- صلى الله عليه وسلم- بإحراق البيت عليهم ،
ويُنَفِّذُ ذلك الأمر [طَلْحَةُ] - رضي الله عنه- فيقتحمون الأسوار خوفًا
من نار الدنيا ، فتنكسر رِجل أحدهم ، و يفِرُّ الباقون ، و يَعِزُّ جُنْدَ
الحق رغم أنوفهم ، و يخيب كل منافق خَوَّان . ويتوجَّه- صلى الله عليه
وسلم- و يمر بديار <ثَمُود> ، و ما أدراكم ما تلك الديار ! ، ديار
غضب الله على أهلها ، فتلك بيوتهم خاوية ، و آبارهم معطَّلة ، و أشجارهم
مقطَّعة ، فيدخلها و قد غطَّى وجهه ، و هو يبكي ، و يقول لجيشه :" لا
تدخلوها إلا باكين أو مُتباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم".
يا
لله !! هذه أرض سكنها الظَلَمَة ، فقولوا لي -بالله فيمن يجالس
الظَلَمَة ، و يؤيد الظَلَمَة ، و يركَن إلى الظَلَمَة ، و يكون لهم
أنيسًا و لسانًا و صاحبًا- : كيف يكون حاله ؟ ألا يخاف أن يغضب الله عليه ؛
فيأخذه أخذ عزيز مقتدر ( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) و يستسقي الناس من بئر في< ديار ثَمُود>
فيقول -صلى الله عليه وسلم- : "لا تشربوا من مائها ، و لا تتوضئوا منه
للصلاة ، وما عَجَنتم من عجين بمائها فاعْلِفوه الإبل ، و لا تأكلوا منه
شيئًا " ففعلوا امتثالا لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم – و مع الغروب
يُعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها سوف تَهُبُّ رياح شديدة ، فلا
يخرج أحد من مُخَيَّمِه إلا مع صاحب له ، حتى تهدأ الريح ، و خالف أمره
رَجُلان من المسلمين ، لضَعف في إيمانهم ، خرج أحدهم ليقضي حاجته
فخَنَقَتْه الجِنُّ عند حاجته ، وخرج الآخر في طلب بَعِير له ، فاحْتَمَلته
الريح حتى طرحته في< جبال طَيء> ، فدعا رسـول الله -صلى الله عليه
وسلم- للذي أُصيب بخَنْق الجِنِّ ، فَشُفِي ، فكانت هذه آية من آيات
نبوَّته- صلى الله عليه وسلم- وأمَّا الآخر ، فسُلِّم للنبي- صلى الله عليه
وسلم- عند عودته إلى <المدينة>
لازال
- صلى الله عليه وسلم- في طريقه إلى <تَبُوك> ، قد بلغ به الجوع
والتعب والإرهاق مبلغًا عظيمًا ، لكن في سبيل الله يهون ، و مع السَّحَرِ
ينام من التعب- صلى الله عليه وسلم- على دابَّتِه حتى يكاد يسقط- كما في
صحيح مسلم- فيقترب منه [أبو قتادة] ، فيَدْعَمَه بيده حتى يعتدل ، ثم يميل
مَيلةً أخرى، فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل مَيلة أشَدَّ من
المَيلتين الأُولَيين ، حتى كاد يسقط ، فيدعمه بيده ، فيرفع رأسه- صلى الله
عليه وسلم- و يقول : من هذا ؟ قال : أنا أبو قتادة ، فيُكَافِئَه- صلى
الله عليه وسلم ، فبمَّ كافأه ؟ قال : " حفظك الله بما حفظت نبي الله يا
أبا قتادة" . يقول أهل العلم : فوالله مازال أبو قتادة محفوظًا بحفظ الله
في أهله و ذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا ، وهذا درس عظيم ، فإن من حفظ
الله حفظه الله فلا خوف عليه ، إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وما
جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وينزل –صلى الله عليه وسلم- و المؤمنون منزلا ،
يقول عمر : في ذلك المنزل و قد أصابنا عطش عظيم حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع
، حتى إن الرجل لينحر بعيره ، فيعتصر قرته فيشربه ، وتضل راحلة النبي- صلى
الله عليه وسلم- و يخرج أصحابه يبحثون عنها ، فيقوم أحد المنافقين ، فيقول
: إن محمدًا يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء و هو الآن لا يدري أين
ناقته ، و يأتي جبريل رسول الله –صلَّى الله عليه وسلم- بالخبر ، و يقول :
إنَّ رجلا منكم يقول : إنَّ محمدًا يزعم أنَّه نبي و يخبركم بأمر السماء و
هو لا يدري أين ناقته ، وإني – والله - ما أعلم إلا ما علمني الله ، وقد
دلني الله عليها . يقول لهم النبي – صلى الله عليه وسلم- : "هي في هذا
الوادي في شعب كذا ، قد حبستها شجرة بزمامها ، فانْطَلِقُوا حتى تأتوني
بها" فذهبوا فوجدوها كما ذكر- صلى الله عليه وسلم- وظهرت
آية نبوته وفُضِحَ هذا المنافق وطُرِدَ عدو الله من جيش محمد -صلى الله
عليه وسلم- ويمضي -صلى الله عليه وسلم- في مسيره إلى <تبوك> ، ويتخلف
عنه بعض المسلمين ، فيقول الصحابة : فلان تخلف يا رسول الله ، فيقول
:"دعوه إن يكن فيه خير فسَيُلْحِقَه الله بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم
الله منه" ، ويتأخر [أبو ذر] ، بعيره هزيل ، أبطأ به بعيره ، فترك بعيره
وأخذ متاعه وحمله على ظهره ، وينزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض
منازله على الطريق ، وينظر ناظر المسلمين ويقول : يا رسول الله : رجلٌ يمشي
على الطريق وحده ، متاعه على ظهره ، فقال- صلى الله عليه وسلم- :" كن أبا
ذر كن أبا ذر " فيتأمل الصحابة ، فيقولون هو والله أبو ذرٍ يا رسول الله ،
فقال- صلى الله عليه وسلم- :" رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ،
ويبعث وحده." ، وتمضي الأيام على هذه المقولة ، وتمضي الأعوام ، و يُنْفَى
أبو ذرٍ إلى <الربدة> ، ويحضره الموت هناك ، وليس معه إلا امرأته
وغلامه ، وقبل موته أوصاهما : أن يُكَفِّنَاه و يُغَسِّلاه ، و يضعاه على
الطريق ، و أول ركب يمر بهم يقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فأعينونا على دفنه. و يفعلان ذلك ،
ويأتي [عبد الله بن مسعود] في رهط من أهل العراق ؛ ليعتمروا و ما راعهم
إلا الجنازة على قارعة الطريق ، كادت الإبل أن تطأها ، عندها قام غلام أبي
ذر و قال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعينونا على
دفنه ، فاندفع عبد الله بن مسعود باكيًا يقول : صدق رسول الله- صلى الله
عليه وسلم- " تمشي وحدك وتموت وحدك." ، ثم نزل هو وأصحابه فدفنوه ، ودموعهم
تَهْراق على خدودهم .
وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنـها روحٌ تسيل فتَقْــطُرُ
وينتهي
المسير بمحمد- صلى الله عليه وسلم- إلى <تبوك> ، ويقيم بضع عشر ليلة
حافلة بالأحداث المثيرة . روى [البيهقي] من حديث [يزيد بن هارون] أنَّه-
صلى الله عليه وسلم- لما نام ليلة في <تبوك> ، أتاه جبريل -عليه
السلام- وقال : يا رسول الله قم صَلِّ صلاة الغائب على [مُعاوية بن مُعاوية
اللَّيْثِي] فقد تُوفِى بالمدينة ، من يا ترى [معاوية] ؟ عابد صالح يذكر
الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه ، وكأنَّه- صلى الله عليه وسلم- يتساءل لِمَ
؟ فأُخْبِر أنَّه كان يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قائمًا وقاعدًا وعلى
جنب ، بالليل والنهار ، وقد تُوفِى <بالمدينة> و صُلِّيَ عليه هناك،
وشهد الصلاة عليه صفان من الملائكة ، في كل صف سبعون ألف ملك ، فلا إله إلا
الله ، قام- صلى الله عليه وسلم- و صلَّى عليه – و كان قد سافر- صلى الله
عليه و سلم- إلى <تبوك> و هو مريض فهنيئًا له دعاء الرسول -صلى الله
عليه وسلم- و صلاة الملائكة عليه.
لازالت
الأحداث المثيرة تتوالى في <تبوك> يقول [ابن مسعود] -رضى الله عنه-:
"ونِمْنًا تلك الليلة وانتبهت وسط الليل ، فالتفت إلى فراش رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فلم أجده ، إلى فراش أبي بكر فلم أجده ، إلى فراش عمر فلم
أجده ، و إذ بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر ، فذهبت أتبعها ؛ فإذا برسول
–الله صلى الله عليه وسلم- قد حفر قبرًا و معه أبو بكر وعمر. و عند رسول-
الله صلى الله عليه وسلم- سراج بيده قد نزل إلى القبر قال : قلت يا رسول
الله من الميت ؟ قال هذا أخوك [عبد الله ذو البجادين]. "من هو ؟ إنه أحد
الصحابة حلت به سكرات الموت بالليل ، فقام- صلى الله عليه وسلم- و شهد موته
و ودعه و دعا له و حفر قبره بيده الشريفة و أيقظ أبا بكر و عمر. يقول ابن
مسعود :" فو الذي لا إله إلا هو- ما نسيت قوله – صلى الله عليه وسلم
- و هو في القبر ، و قد مد ذراعيه لذي البجادين ، و هو يقول لأبي بكر و
عمر:" أدنيا إليَ أخاكما فدلياه في القبر و دموعه –صلى الله عليه وسلم-
تتساقط على الكفن. ثم وقف –صلى الله عليه وسلم- لما وضعه في القبر رافعا
يديْه مستقبلا القبلة يقول: اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه ، اللهم
إني أمسيت عنه راضيًا ، فارض عنه. يقول ابن مسعود : يا ليتني كنت صاحب
الحفرة ، لأنال دعاءه –صلى الله عليه وسلم-". من هو [ذو البجادين] ؟ إنه
صحابي جليل ، أسلم و كان تاجرًا ، فأخذ أهله و قومه ماله كله ؛ لأنه آمن
وهم يريدون له الكفر ، أخذوا حتى لباسه ، فذهب فما وجد لباسًا غير شملة
قطعها إزارًا و رداء – بجادين-، و فر بدينه يريد الله و الدار الآخرة . قدم
على المصطفى-صلى الله عليه وسلم- ذو البجادين- ، وأُخبِرَ صلى الله عليه
وسلم بخبره ،" فقال: تركت مالك لله ورسوله ، أبدلك الله ببجاديْك إزارًا
ورداء في الجنة ، أنت ذو البجادين". فلُقِّب من تلك اللحظة بذي البجادين ، و
كان مصرعه في <تبوك> ، و مضى الركب وخلفوه هناك ، لكنهم يجتمعون معه
في جنة عرضها السماوات و الأرض. ( يَوْمَ
لاَ يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ) و يقيم –صلى الله عليه
وسلم- بـ<تبوك> و يدنو من الروم و يفزعهم ، و يكاتب رسلهم ، و يفرض
عليهم الجزية ، و هم صاغرون ، و لم يلق كيدًا منهم ، لأن الله قد نصره
بالرعب مسيرة شهر ، فلم يقرب إليه الروم خوفًا و فزعًا ، وقد كانوا قبل قد
عزموا على غزوه في عقر داره. ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ
كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) و يرسل –صلى
الله عليه وسلم- [خالدًا] على رأس أربعمائة مجاهد في سبيل الله إلى
[أُكيْدِر] ملك <دومة الجندل> ، و يخبر –صلى الله عليه وسلم- خالدًا
أنه سيلقاه يصيد بقر الوحش ، خرج خالد ، ولما بلغ قريبًا من حصنه ، وجده قد
خرج للصيد ، كما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-، فتلقته خيل الله بقيادة
خالد ، فاستأسرته ، واستلب خالد منه قباء مخوصًا بالذهب –قميصًا مخوصًا
بالذهب- ، و بعث به إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قبل قدومه عليه ،
فجعل المسلمون يتعجبون من هذا القباء ، فقال –صلى الله عليه و سلم-
مُزهِّدًا لهم في زخرف الدنيا : "أتعجبون من هذا ؟ لَمناديل [سعد بن معاذ]
في الجنة خير من هذا". قدم خالد بـ[الأكيدر] ، و حقن دمه –صلى الله عليه
وسلم- و ضرب عليه الجزية ، ولكنه مجرم ، ولو علم الله فيه خيرا لأسمعه ،
نقض العهد في عهد أبي بكر ، فقتله خالد–رضي الله عنه وأرضاه- . وهكذا نصر
الله جنده وأولياءه ورسله وعباده في الحياة الدنيا ، وينصرهم يوم يقوم
الأشهاد
عباد
الله: ويعود –صلى الله عليه وسلم- إلى <المدينة> ، بعد إرهاب أعداء
الله من نصارى و يهود و مشركين ، يعود في يوم بهيج ، لتستقبله
<المدينة> ، لتستقبل نور بصرها –صلى الله عليه وسلم- يخرج الأطفال في
فرح ، ليصطفُّوا إلى مداخل المدينة ، و على أفواه الطرقات ، ليستقبلوا
رسول البرية –صلى الله عليه وسلم- أصواتهم -كما حقق [ابن القيم] عليه ر
حمه الله
طلعَ البدرُ علينَا *** مِن ثنيَّات الوداعْ وجَب الشكر علينَا *** ما دَعا لله دَاعْ
أيها المبعُوث فينَا *** جئتَ بالأمرِ المُطاعْ
جئتَ شرَّفت المدينةْ *** مرحبًا يا خيرَ داعْ
و
هنا قال- صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ <بالمدينة> رجالا، ما سرتم
مسيرًا ، و لا قطعتم واديًا ، و لا وَطَئِتُم موطئًا يغيظ الكفار ، إلا
كانوا معكم ، حبسهم العذر. قالوا : يا رسول الله و هم بالمدينة ؟ قال: نعم ،
و هم بالمدينة" ، و يتبسم –صلى الله عليه وسلم- و يمسح الرؤوس ، ويقبل
ويدعو. وهكذا انتصر المسلمون في <تبوك> على شهواتهم وأنفسهم ،
وبالتالي انتصروا على أعدائهم. ( وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ
اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) هذه غزوة <تبوك> قائدها محمد –صلى الله
عليه وسلم- ، جنودها صحابته
–رضوان الله عليهم-، عز فيها المؤمنون ، و سقط المنافقون ، و ذل الكافرون و
انهزموا ، و بالجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله يُنصَر المؤمنون ، و
المؤمنون على عناية ربهم يتوكلون، لا خوف يُرهبهم ، و لا هم في الحوادث
يحزنون.
اللهم
أنت الناصر لدينك ، و المعز لأوليائك ؛ افتح لنا فتحًا مبينًا ، انصرنا
نصرًا عزيزًا ، و اجعل لنا من لدنك سلطانًا نصيرًا ، اللهم ثبِّت أقدامنا ،
وزلزل أعداءنا ، اللهم أدخل الرعب في قلوبهم ، واستأصل شأفتهم ، و اقطع
دابرهم ، وأَبِدْ خضراءهم ، و اجعل تدبيرهم تدميرهم ، و أورثنا أرضهم ، و
ديارهم و أموالهم ، و كن لنا وليًا ، و بنا حفيًّا. يا من نصرت بماض ضعف
أمتنا على الطواغيت عجل نصرنا الثاني . أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله
العظيم فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم