الحمد لله القائل (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)
والصلاة والسلام على خاتم النبيين نينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيرا إلا دلنا عليه ولا شرا إلا حذرنا منه
هذا شرح جميل لهذا الحديث الشريف فأحببت أن أنقل لكم الشرح والفوائد من كتاب رياض الصالحين للعلامة محمد بن صالح العثيمين
-رحمه الله تعالى -
أسأله تعالى أن ينفعنا بما نقرأ ويفقهنا في الدين
الحـــــــــــــــــــديث
عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - : أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، يقُولُ : ((إنَّ
ثَلاثَةً مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ : أبْرَصَ ، وَأَقْرَعَ ، وَأَعْمَى ،
أَرَادَ اللهُ أنْ يَبْتَليَهُمْ فَبَعَثَ إِليْهمْ مَلَكاً ،
فَأَتَى الأَبْرَصَ ، فَقَالَ : أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ ؟ قَالَ : لَوْنٌ حَسنٌ ، وَجِلدٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ ؛ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِيَ لَوناً حَسنَاً . فَقَالَ : فَأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليكَ ؟ قَالَ : الإِبلُ - أَوْ قالَ : البَقَرُ شكَّ الرَّاوي - فَأُعطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ ، فَقَالَ : بَاركَ الله لَكَ فِيهَا
فَأَتَى الأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذِرَني النَّاسُ ؛ فَمَسَحَهُ فَذَهبَ عَنْهُ وأُعْطِيَ شَعراً حَسَناً . قالَ : فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ ؟ قَالَ : البَقَرُ ،فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً ، وَقالَ : بَارَكَ الله لَكَ فِيهَا .
فَأَتَى الأَعْمَى ، فَقَالَ : أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : أَنْ يَرُدَّ الله إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ النَّاسَ؛ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرهُ. قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ ؟ قَالَ : الغَنَمُ ، فَأُعْطِيَ شَاةً والداً ،
فَأَنْتَجَ
هذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا ، فَكانَ لِهذَا وَادٍ مِنَ الإِبلِ ، وَلِهذَا
وَادٍ مِنَ البَقَرِ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الغَنَمِ .
ثُمَّ إنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيئَتِهِ ، فَقَالَ
: رَجلٌ مِسْكينٌ قَدِ انقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَري فَلا بَلاغَ
لِيَ اليَومَ إلاَّ باللهِ ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالَّذي أعْطَاكَ
اللَّونَ الحَسَنَ ، والجِلْدَ الحَسَنَ ، وَالمَالَ ، بَعِيراً
أَتَبَلَّغُ بِهِ في سَفَري ، فَقَالَ : الحُقُوقُ كثِيرةٌ . فَقَالَ : كأنِّي اعْرِفُكَ ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فقيراً فأعْطَاكَ اللهُ !؟ فَقَالَ : إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا المالَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ ، فَقَالَ : إنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ الله إِلَى مَا كُنْتَ .
وَأَتَى الأَقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذا ، وَرَدَّ عَلَيهِ مِثْلَ مَا رَدَّ هَذَا ، فَقَالَ : إنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ .
وَأَتَى الأَعْمَى في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ
: رَجُلٌ مِسْكينٌ وابنُ سَبيلٍ انْقَطَعتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَرِي ،
فَلا بَلاَغَ لِيَ اليَومَ إلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ ، أَسأَلُكَ بالَّذِي
رَدَّ عَلَيْكَ بَصَركَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا في سَفري ؟ فَقَالَ
: قَدْ كُنْتُ أعمَى فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ
وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللهِ ما أجْهَدُكَ اليَومَ بِشَيءٍ أخَذْتَهُ للهِ -
عز وجل -. فَقَالَ : أمْسِكْ مالَكَ فِإنَّمَا ابْتُلِيتُمْ . فَقَدْ رضي الله عنك ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيكَ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
ذكر
النبي –عليه الصلاة والسلام – في هذا الحديث أن ثلاثة من بني إسرائل
ابتلاهم الله – عزوجل – بعاهات في أبدانهم ، أحدهم أبرص ، والثاني أقرع ليس
على رأسه شعر والثالث أعمى لا يبصر . فأراد - الله سبحانه وتعالى – أن
يبتليهم ويختبرهم ، لأن الله سبحانه يبتلي العبد بما شاء ليبلوه هل يصبر أم
يضجر إذا كان ابتلاه بضراء ، وهل يشكر أو يقتر إذا كان قد ابتلاه بسراء .
فبعث الله إليهم ملكا من الملائكة وأتاهم يسألهم : أي شيء أحب إليهم ؟
فبدأ بالأبرص فقال أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ ؟ قَالَ : لَوْنٌ حَسنٌ ، وَجِلدٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ
لأن أهم شيئ عند الإنسان أن يكون معافى من العاهات ، و لا سيما العاهات المكروهة عند الناس .فمسحه الملك فبرأ بإذن الله ، وزال عنه البرص وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا
ثم قال له : (فَأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليكَ ؟ قَالَ : الإِبلُ - أَوْ قالَ : البَقَرُ
والظاهر أنه قال : الإبل ؛ "لأنه في قصة الأقرع أعطي البقر"
فأعطاه
ناقة عشراء ، وقال له بارك الله لك فيها . فذهب عنه الفقر وذهب عنه العيب
البدني ودعا له الملك أن يبارك الله له في هذه الناقة.
ثم أتى الأقرع وقال : ( أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذِرَني النَّاسُ ؛ فَمَسَحَهُ فَذَهبَ عَنْهُ وأُعْطِيَ شَعراً حَسَناً . قالَ : فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ ؟ قَالَ : البَقَرُ ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً ، وَقالَ : بَارَكَ الله لَكَ فِيهَا . )
أما الأعمى فجاءه الملك فقال له : ( أي شيء أحب إليك ؟ قال أن يرد الله علي بصري فأبصر به الناس )
وتأمل قول الأعمى هذا فإنه لم يسأل إلا بصرا يبصر به الناس فقط ، أما
الأبرص والأقرع فإن كل واحد منهما تمنى شيئا أكبر من الحاجة ؛ لأن الأبرص
قال : جلدا حسنا ولونا حسنا ، وذاك قال : شعرا حسنا فليس مجرد جلد أو شعر
أو لون بل تمنيا شيئا أكبر ، أما هذا فإن عنده زهدا ؛ لذا لم يسأل إلا بصرا
يبصر به الناس فقط .
ثم سأله : ( فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ ؟ قَالَ : الغَنَمُ )
وهذا أيضا من زهده فلم يتمنى الإبل ولا البقر ، بل الغنم ، ونِسْبَةُ
الغنم للبقر والإبل قليلة ، فأعطاه شاةً والداً وقال :بارك الله لك فيها.
فبارك
الله –سبحانه وتعالى – للأول في إبله ، وللثاني في بقره وللثالث في غنمه ،
وصار لكل واحد منهم واد مما أعطي ، للأول واد من الإبل ، وللثاني واد من
البقر وللثالث واد من الغنم .
ثم إن هذا الملك أتى الأبرص في صورته وهيئته ، صورته البدنية وهيئته الرثة، ولباسه لباس الفقير، وقال له:
((رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك)).
فتوسل
إليه بذكر حاله انه فقير، وانه ابن سبيل أي مسافر، وإن الحبال أي الأسباب
التي توصله إلى أهله قد انقطعت به، وأنه لا بلاغ له إلا بالله ثم به.
وقال له: (( أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري)) لكنه قال: (( الحقوق كثيرة))
وبخل بذلك، مع إن له واديا من الإبل، لكنه قال: الحقوق كثيرة، وهو فيما
يظهر_ والله اعلم_ أنه لا يؤدي شيئا منها ، لأن هذا من أحق ما يكون، لأنه
مسافر وفقير وانقطعت به الحبال، ومن أحق ما يكون استحقاقا للمال، ومع ذلك
اعتذر له! فذكره بما كان عليه من قبل فقال له: (( كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله)) أي أعطاك المال وأعطاك اللون الحسن والجلد الحسن، ولكنه قال والعياذ بالله: (( إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر)) و أنكر نعمة الله. فقال له الملك : (( إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت))
أي: إن كنت كاذبا فيما تقول فصيرك الله إلى ما كنت من الفقر والبرص.
والذي يظهر إن الله استجاب دعاء الملك وإن كان دعاء مشروطا، لكنه كان
كاذبا بلا شك، فإذا تحقق الشرط تحقق المشروط. وأتى القرع فقال له مثلما
قال للأبرص، ورد عليه مثلما رد عليه الأبرص، فقال: (( إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت عليه))
وأتى الأعمى وذكره بنعمة الله عليه: (( فقال: كنت اعمى فرد الله إلي
بصري)) فأقر بنعمة الله عليه (( فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله ما أجهدك
اليوم بشيء أخذته لله عز وجل)). أي: لا أمنعك ولا أشق عليك بالمنع بشيء
أخذته لله عز وجل. فانظر إلى الشكر والاعتراف بالنعمة. فقال له الملك: ((
امسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك)). وهذا يدل
على أن القصة كانت مشهورة بين الناس، ولهذا قال: (( سخط على صاحبيك))، فأمسك ماله وبقي قد أنعم الله عليه بالصبر، وأما
الآخران
فإن الظاهر إن الله ردهما إلى ما كانا عليه من الفقر والعاهة والعياذ
بالله. وفي هذا دليل على أن شكر نعمة الله على العبد من أسباب بقاء النعم
وزيادتها، كما قال الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)
وفي هذا دليل على إن شكر نعمة الله على العبد من أسباب بقاء النعم وزيادتها، كما قال الله تعالى:
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)
وفي
قصتهم آيات من آيات الله عز وجل: منها: إثبات الملائكة، والملائكة عالم
غيبي خلقهم الله _ عز وجل_ من نور، وجعل لهم قوة في تنفيذ أمر الله ، وجعل
لهم إرادة في طاعة الله ، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ومنها: إن الملائكة قد يكونون على صورة بني آدم، فإن الملك أتى لهؤلاء الثلاث بصورة إنسان.
ومنها أيضا: أنهم_ أي الملائكة_ يتكيفون بصورة الشخص المعين، كما جاء إلى الأبرص والأقرع والأعمى ففي المرة الثانية بصورته وهيئته.
ومنها
أيضا: أنه يجوز الاختبار للإنسان في أن يأتي الشخص على هيئة معينة
ليختبره، فإن هذا الملك جاء على صورة الإنسان المحتاج المصاب بالعاهة ليرق
له هؤلاء الثلاثة، مع إن الملك فيما يبدو_ والعلم عند الله_ لا يصاب في
الأصل بالعاهات، ولكن الله_ سبحانه وتعالى_ جعلهم يأتون على هذه الصورة من
أجل الاختبار.
ومنها:
إن الملك مسح الأقرع والأبرص والأعمى مسحة واحدة فأزال الله عيبهم بهذه
المسحة، لأن الله_ سبحانه وتعالى_ إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، ولو شاء
الله لأذهب عنهم العاهة بدون هذا الملك، ولكن الله جعل هذا سببا للابتلاء
والامتحان.
ومنها:
إن الله قد يبارك للإنسان بالمال حتى ينتج منه الشيء الكثير، فإن هؤلاء
النفر الثلاث صار لواحد واد من الإبل ، وللثاني واد من البقر، وللثالث واد
من الغنم،وهذا من بركة الله عز وجل. وقد دعا الملك لكل واحد منهم بالبركة.
ومنها: تفاوت بني آدم في شكر نعمة الله ونفع عباد الله، فان الأبرص والأقرع وقد أعطاهم الله المال الأهم والأكبر، ولكن جحدا نعمة
الله،
قالا: إنما ورثنا هذا المال كابرا عن كابر، وهم كذبة في ذلك، فإنهم كانوا
فقراء أعطاهم الله المال، لكنهم_ والعياذ بالله_ جحدوا نعمة الله وقالوا:
هذا من آبائنا وأجدادنا. أما الأعمى فإنه شكر نعمة الله واعترف لله
بالفضل، ولذاك وفق وهداه الله وقال للملك: (( خذ ما شئت ودع ما شئت))
ومنها
أيضا: إثبات الرضا والسخط لله سبحانه وتعالى، أي أنه يرضى على ما شاء
ويسخط على ما شاء، وهما من الصفات التي يجب إن نثبتها لربنا سبحانه وتعالى،
لأنه وصف نفسه بها. ففي القرآن الكريم: الرضا: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ )(التوبة: من الآية100)، وفي القرآن الكريم: ( أَنْ
سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)(المائدة: من
الآية80)، وفي القرآن العظيم الغضب: ( وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ )(النساء: من الآية93)، وهذه الصفات وأمثالها يؤمن بها أهل
السنة والجماعة بأنها ثابتة لله على وجه الحقيقة، لكنها لا تشبه صفات
المخلوقين، كما إن الله_ عز وجل_لا يشبه المخلوقين، فكذلك صفاته لا تشبه
صفات المخلوقين.
ومن
فوائد هذا الحديث: إن في بني إسرائيل من العجب والآيات ما جعل النبي صلى
الله عليه وسلم ينقل لنا من أخبارهم حتى نتعظ. ومثل هذا الحديث قصة النفر
الثلاث الذين لجاءوا إلى غار فانطبقت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم
الغار وعجزوا عن زحزحتها، وتوسل كل واحد منهم إلى الله تعالى بصالح عمله.
فالنبي _ عليه الصلاة والسلام_ يقص علينا من أنباء بني إسرائيل ما يكون
فيه الموعظة والعبرة، فعلينا أن نأخذ من هذا الحديث عبرة بأن الإنسان إذا
شكر نعمة الله، واعترف لله بالفضل، وأدى ما يجب عليه في ماله، فإن ذلك من
أسباب البقاء والبركة في ماله.
والله الموفق.