ثانياً: إبطال أدلتهم من الإنجيل &&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
يستشهد النصارى ببعض نصوص الأناجيل التي تتضمن
ألفاظاً دالة على تلك العقائد ، فقالوا : عمدوا الناس باسم الأب و الابن
والروح القدس . متى ( 28 : 19 ) .
و قد رد ابن تيمية على ذلك بقوله : هذا النص هو
عمدتكم على ما تدعونه من الأقانيم الثلاثة ، و ليس فيه شيء يدل على ذلك لا
نصاً ولا ظاهراً ، فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى
صفة من صفات الله ، ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه ، ولا سموا
كلامه ابنه ، و لكن عندكم أنهم سموا عبده وأو عباده ابنه أو بنيه ، وإذا
كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم ابن الله ، و كلامه دعوى في غاية
الكذب على المسيح ، و هو حمل للفظ على مالم يستعمله هو ولا غيره فيه لا
حقيقة و لا مجازاً ، فأي كذب و تحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا ، و لو
كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابناً ، و قدرته ابناً ،
فتخصيص العلم بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثانٍ لو كان لفظ الابن يستعمل في
صفة الله ، فكيف إذا لم يكن كذلك ...
بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون
به في لغتهم الرب ، والابن الذي يريدون به في لغتهم المربي ، و هو هنا
المسيح ، و الروح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك ،
و بهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم . الجواب الصحيح (
2/131-134 ) بتلخيص .
كما و يستدل النصارى على صحة عقيدتهم في بنوة المسيح لله عز وجل بما يدعونه و يتأولونه كعادتهم من آيات الكتاب الحكيم ، فيقولون :
1 - إنه قد جاء في هذا الكتاب - يقصدون القرآن الكريم - الذي جاء به هذا الإنسان - أي محمد صلى الله عليه وسلم - {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}
[النساء/171] . و يقولون : و هذا يوافق قولنا : إن المسيح لاهوت
و ناسوت ، إذ قد شهد القرآن أنه إنسان مثلنا بالناسوت الذي أخذ من مريم ، و
كلمة الله و روحه المتحدة فيه ، وحاشا أن تكون كلمة الله و روحه الخالقة
مثلنا نحن المخلوقين ، فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة
. نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية ( 2/279 ) .
و قوله تعالى { وقالت اليهود عزيز ابن الله و قالت
النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل
قاتلهم الله أنى يؤفكون }[التوبة /30] .
إلى غير ذلك من أمثال هذه الآيات ، فكيف يزعمون أن
القرآن يثبت لاهوت المسيح و هو يكفّر صراحة - كما رأينا - من يثبت بنوته
لله تعالى و ألهيته .
و قد أجاب شيخ الإسلام على ذلك بقوله : إن جميع ما
يحتج به النصارى من هذه الآيات - و غيرها - هو حجة عليهم لا لهم ، و ذلك من
وجوه :-
الوجه الثاني : أنه خلق من الطين كهيئة الطير ،
والمراد به : تصويره بصورة الطير ، و هذا الخلق يقدر عليه عامة الناس ،
فإنه يمكن لأحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير ، و غير الطير من الحيوانات
، والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيراً بإذن الله عز وجل و ليس مجرد
خلقه من الطين ، فإن هذا أمر مشترك .
الوجه الثالث : أن الله أخبر أن المسيح إنما فعل
التصوير المحرم والنفخ بإذن الله تعالى ، و أخبر المسيح عليه السلام أنه
فعله بإذن الله ، و أخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح
عليه السلام كما قال تعلى {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل}[الزخرف/59] .
و قوله تعالى {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك
وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ، وإذ علمتك
الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني
فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني و تبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى
بإذني } [المائدة/110] .
و هذا كله صريح في أنه ليس هو الله ، إنما هو عبد
الله فعل ذلك بإذن الله كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء ، و صرح بأن
الآذن غير المأذون له ، و المعلِّم ليس هو المعلَّم ، و المنعم عليه و على
والدته ليس هو إياه ، كما ليس هو والدته .
الوجه الرابع : إنهم قالوا : أشار بالخالق إلى
كلمة الله المتحدة في الناسوت ، ثم قالوا في قوله { بإذن الله } أي
بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت ، و هذا يبين تناقضهم و افتراءهم على
القرآن ؛ لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن
الله ، ففرق بين المسيح و بين الله ، و بين أن الله هو الآذن للمسيح ، و
هؤلاء زعمهم أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بالناسوت المسيح هو الخالق ، و
هو الآذن ، فجعلوا الخالق هو الآذن ، و هو تفسير للقرآن بما يخالف صريح
القرآن .
الوجه الخامس : إن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم
يحتج إلى أن ياذن لنفسه ، فإنهم يقولون : هو إله واحد ، و هو الخالق ،
فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه و ينعم على نفسه ؟!
الوجه السادس : إن الخالق إما أن يكون الذات
الموصولة بالكلام ، أو الكلام الذي هو صفة للذات ، فإن كان هو الكلام ،
فالكلام صفة لا تكون ذاتاً قائمة بنفسها خالقة ، و لو لم تتحد بالناسوت ،
واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكناً ، فكيف و هو
ممتنع ؟!
و إذا كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام ، فذاك هو
الله الخالق لكل شيء رب العالمين ، و عندهم هو الأب ، و المسيح عندهم ليس
هو الأب فلا يكون هو الخالق لكي شيء ، و القرآن يبيّن أن الله هو الذي أذن
للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير ، فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة
الطير ليس هو الله ، ولا صفة من صفاته ، فليس المسيح هو الله ، و لا ابن
قديم أزلي لله ، و لكن عبده فعل بإذنه .
الوجه السابع : قولهم فأشار بالخالق على كلمة الله
المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي :
( بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض ) فيقال لهم : هذا النص عن داود
حجة عليكم ، كما أن التوراة والقرآن و سائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم ،
فإن داود عليه السلام قال : ( بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض ) و
لم يقل : إن كلمة الله هي الخالقة ، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى
كلمة الله .
والفرق بين الخالق للسماوات والأرض و ين الكلمة التي
بها خلق السماوات والأرض أمر ظاهر معروف ، كالفرق بين القادر والقدرة ، فإن
القادر هو الخالق ، و قد خلق الأشياء بقدرته ، و ليست القدرة هي الخالقة
.. فالله تعالى يخلق بقدرته و مشيئته وكلامه ، و ليس صفاته هي الخالقة
.
الوجه الثامن : إن قول داود عليه السلام : (
بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض ) يوافق ما جاء في القرآن و التوراة ، و
غير ذلك من كتب الأنبياء ، إن الله يقول للشيء {كن فيكون} و هذا في
القرآن في غير موضع و في التوراة قال الله : ( ليكن كذا ليكن كذا )
.
الوجه التاسع : قولهم : ( لأنه ليس خالق إلا
الله و كلمته و روحه ) . إن أرادوا بكلمته كلامه ، و بروحه حياته فهذه
من صفات الله ، كعلمه و قدرته ، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله
بأنه روح الله ، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة
الله ، فقد كذب عليه ، ثم يقال : هذا كلامه و حياته من صفات الله كعلمه و
قدرته ، وحينئذ فالخالق هو الله وحده و صفاته داخلة في مسمى اسمه ، لا
يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن بأن الله له شريك في
خلقه ، فإن الله لا شريك له ، و لهذا لما قال تعالى {الله خالق كل شيء}
دخل كل ما سواه في مخلوقاته ، و لم تدخل صفاته كعلمه و قدرته و مشيئته و
كلامه ، لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له .. وإن
أرادوا بكلمة روحه المسيح ، أو شيئاً اتحد بناسوت المسيح ، فالمسيح عليه
السلام كله مخلوق كسائر الرسل و الله وحده هو الخالق ..
الوجه العاشر : إن داود عليه السلام لا يجوز أن
يريد بكلمة الله المسيح ؛ لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت ، و هو
عند النصارى اسم اللاهوت والناسوت لما اتحدا ، و الاتحاد فعل حادث عندهم ،
فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحاً ، فعلم أن داود لم يرد
بكلمة الله المسيح ، و لكن غاية النصارى أن يقولوا : أراد الكلمة التي
اتحدت فيها - أي مريم - بجسد المسيح لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما
نطق به القرآن بقوله {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين }[آل عمران/45] .
فالكلمة التي ذكرها ، و إنها هي التي بها خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله .
فاحتجاجهم بهذا - أي بأن المسيح باعتباره كلمة الله
خلق الأشياء - على الكلمة الخالقة بإذنه ، هذا احتجاج باطل ، بل تلك الكلمة
التي بها خلقت السماوات و الأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم و
المسيح لابد أن يدخل فيه الناسوت فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح . أنظر
: الجواب الصحيح (2 /287 - 293 ) .
فقالوا : قد عنى بقوله : مثل عيسى ، إشارة إلى
البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة ، لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح إنما ذكر
عيسى فقط .
و كما أن آدم خلق من غير جماع ولا مباضعة ، فكذلك جسد
المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعة ، وكما أن جسد آدم ذاق الموت ، فكذلك
جسد المسيح ذاق الموت .
و قالوا كذلك : و قد يبرهن على عقيدتنا أيضاً بما
ذكره القرآن عن المسيح من أن الله ألقى كلمته إلى مريم ، و ذلك حسب قولنا
: إن كلمة الله الأزلية الخالقة حلت في مريم و تجسدت بإنسان كامل .
أنظر : الجواب الصحيح ( 2 / 294 ) .
و قد أجاب ابن تيمية رحمه الله عن ذلك بما يأتي :
أولاً : إن قوله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون }
كلام حق فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ؛ ليبين
عموم قدرته ، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، و خلق زوجته حواء من ذكر بلا
أنثى ، و خلق المسيح من أنثى بلا ذكر ، و خلق سائر الخلق من ذكر و أنثى ، و
كان خلق آدم و حواء أعجب من خلق المسيح ، فإن حواء خلقت من ضلع آدم ، و
هذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم ، و خلق آدم أعجب من هذا و هذا ، و هو
أصل خلق حواء ؛ فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح ،
فإذا كان سبحانه قادراً أن يخلقه من تراب ، و التراب ليس جنس بدن الإنسان ،
أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان ؟ و هو سبحانه خلق
آدم من تراب ، ثم قال له كن فكان لما نفخ فيه من روحه ، فكذلك المسيح نفخ
فيه من روحه ، و قال له كن فكان ، و لم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتاً
وناسوتاً ، بل كله ناسوت ، و كذلك المسيح كله ناسوت .
وهذا كله يبين به إن المسيح عبد ليس بإله ، وأنه
مخلوق كما خلق آدم ، و قد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يباهل من قال
أنه إله ، فيدعوا كل من المتباهلين أبنائه و نسائه و قريبه المخلص به ثم
يبتهل هؤلاء و هؤلاء يدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين ، فإن كان
النصارى كاذبين في قولهم : هو الله ، حقت اللعنة عليهم ، و إن كان من قال
ليس هو الله بل عبد الله كاذباً حقت اللعنة عليه ، و هذا إنصاف من صاحب
يقين يعلم أنه على الحق .
و النصارى لما لم يعلموا أنهم على حق نكلوا عن المباهلة ، و قد قال تعالى عقب ذلك { إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله }..
الآية[آل عمران/62] . تكذيباً للنصارى الذين يقولون : هو إله حق
من إله حق ، فكيف يقال : إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت و أن
الناسوت فقد دون اللاهوت ؟
و بهذا ظهر الجواب عن قولهم : أعني بقوله : -
عيسى - إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة ؛ لأنه لم يذكر الناسوت
هاهنا اسماً للمسيح ، إنما ذكر عيسى فقط .
فإنه يقال لهم : عيسى هو المسيح بدليل قوله تعالى
{إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم و روح منه}
.. الآية و قوله تعالى {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} .. الآية فأخبر أن المسيح ليس هو ابن الله و إنما هو ابن مريم ، والذي هو ابن من مريم هو الناسوت ، و أنه ليس إلا رسول .
ثانياً : قولهم : ( و قد يبرهن أيضاً - أي
عقيدتهم في المسيح من أنه إله و ابن إله - بما ذكره القرآن عن المسيح من أن
الله ألقى كلمته الخالقة إلى مريم ، و ذلك حسب قولنا نحن معشر النصارى :
إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم ، واتحدت بإنسان كامل ) .
نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية ( 2/294 ) .
ففي هذا الكلام وجوه تبيّن أنه مخلوق ، ليس هو ما
يقوله النصارى ، منها : أنه قال ( بكلمة منه ) و قوله : ( بكلمة
منه ) نكرة في الإثبات ، يقتضي أنه كلمة من كلمات الله ، ليس هو كلامه
كله كما يقوله النصارى .
فهذه ثلاث آيات في القرآن تبيّن أنه قال له ( كن ) فكان ، و هذا تفسير كونه ( كلمة منه).
و قال ( اسمه المسيح عيسى بن مريم ) فأخبر أنه
ابن مريم و أخبر أنه وجيهاً في الدنيا و الآخرة ومن المقربين ، و هذه كلها
صفة مخلوق و الله تعالى و كلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك . و
قال تعالى على لسان مريم {أنى يكون لي ولد } فتبين أن المسيح الذي هو الكلمة ، هو ولد مريم لا ولد الله سبحانه و تعالى ..
فمع هذا البيان الواضح الجلي ، هل يظن ظان أم مراده
بقوله : ( و كلمته ) أنه إله خالق ، أو أنه صفة لله قائمة به ، وأن
قوله ( و روح منه ) المراد به : أنه حياته ، أو روح منفصلة من ذاته
؟! أنظر الجواب الصحيح ( 2 / 299- 301) بتلخيص .
و لنا في هذا المقام كلمة :
بعد ردود ابن تيمية رحمه الله على النصارى فيما
يستشهدون به على عقيدتهم من آيات القرآن ، فإذا كانوا يستشهدون بآيات
القرآن على أنها من كلام الله ، أو من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ،
ليأخذوا جملة العقيدة التي أوحى بها الله ، أو العقيدة التي يعتقدها محمد
صلى الله عليه وسلم ، ليأخذوا ذلك من جميع نصوص القرآن الواردة في الموضوع ،
فلا يقتصرون على جملة هنا أو جملة هناك ، فالتعبيرات القرآنية عن المسيح
بأنه كلمة الله أو روح من الله ، لابد وأن تفهم على ضوء الآيات الأخرى التي
تنفي ألوهية المسيح و بنوته ، و تكفر من يقول بهما ، والتي تثبت براءة
المسيح ممن يؤلهه أو يؤله أمه ، والتي تثبت كذلك اعترافه ببشريته .
على ضوء ذلك كله لابد و أن تفسر الآيات التي وصفت
المسيح بأنه كلمة الله و روح منه ، و إلا فهو إيمان ببعض الكتاب و كفر
بالبعض الآخر ، كما هو ديدنهم . و سواء اعتبر النصارى القرآن كلام الله
أو كلام محمد صلى الله عليه وسلم فلابد من أن يأخذوا العقيدة القرآنية في
المسيح من كل ما جاء في حقه من آيات . و هذا هو ما فعله شيخ الإسلام ،
حيث جمع في مناقشتهم بين ما يستشهدون به من آيات القرآن ، و ما غضوا الطرف
عنه من الآيات الأخرى ، و بذلك يكون التصور الكامل للعقيدة القرآنية في
المسيح ، و في نفس الوقت يظهر بطلان استشهادهم على عقيدتهم الزائفة بآيات
القرآن من جهة ، و بطلان عقيدتهم نفسها من جهة أخرى .
شبه أخرى :-
- يحتج النصارى على اختصاص المسيح بالبنوة والألوهية
دون سائر الأنبياء والرسل بأنه كلمة الله الأزلية التي انفصلت عنه واتحدت
بالمسيح من دون سائر البشر ، فكان ابناً بالطبع و ليس ابناً بالوضع الجواب
: إنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر ؛ لأن سائر البشر
خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات ، بخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة
ثم علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الروح ، و خلقوا من ماء الأبوين ( الأب
والأم ) . والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء رجل ، بل ما نفخ روح
القدس في أمه حبلت به ، و قال الله له ( كن ) فكان ، و لهذا شبهه الله
بآدم في قوله {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون }
فإن آدم عليه السلام خلق من تراب و ماء فصار طيناً ، ثم أيبس الطين ، ثم
قال له : ( كن ) فكان بشراً تاماً بنفخ الروح فيه ، و لكن لم يسم
كلمة الله ؛ لأن جسده خلق من التراب والماء ، و بقي مدة طويلة يقال :
أربعين سنة ، فلم يكن خلق جسده إبداعياً في وقت واحد ، بل خلق شيئاً فشيئاً
، و خلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة ، وأما المسيح عليه السلام فخلق
جسده خلقاً إبداعياً بنفس نفخ روح القدس في أمه ، قيل له : ( كن )
فكان له من الاختصاص - بكونه خلق بكلمة الله - ما لم يكن لغيره من البشر
. أنظر الجواب الصحيح ( 2/166) .
- يقول ابن تيمية : إن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد
من جنس سائر أجساد بني آدم ، و قالوا : ( إنه إله تام وإنسان تام ) ،
و ليس فيه من الإلهية شيء فما بقي - مع هذا - يمتنع أن يعتقد في نظائره ما
يعتقد فيه .
فلو قال القائل : إن موسى بن عمران كان هو الله ،
لم يكن هذا أبعد من قول النصارى فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على
عدوه أظهر و قد سماه الله في التوراة إلها لهارون و لفرعون . انظر سفر
الخروج (4 :16 ، 7 :1 ) . والجواب الصحيح ( 3/174) .
وجماع هذا القول : إن سائر ما يوصف به المسيح عندهم
و يدّعون اختصاصه به من كونه ابناً لله و كونه مسيحاً و كون الله حل فيه ،
أو ظهر أو سكن أو أظهر المعجزات على يديه .. كل ذلك موجود عندهم في حق
غير المسيح ، فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ في كلام الأنبياء
توجب أن يكون هو الله أو ابن الله بل قد عرف - باتفاقهم واتفاق المسلمين -
أن المراد بتلك الألفاظ حلول الإيمان بالله ومعرفته ، و هداه و نوره ومثاله
العليّ في قلوب عباده الصالحين .
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .