عمر بن عبدالعزيز ..
سنقف في هذا الدرس مع علم من الأعلام، ومجدد
من المجددين، وعابد من العباد، وزاهد من الزهاد، يجب أن يكون حديث الشيوخ
في السمر، وأن يكون قصة تقص للأطفال، وأن يكون حديث البيوت، إنه عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه وأرضاه، إنه أبو عبد الملك الذي أطاع الملك سبحانه وخافه، وخشيه.
لما تولى رضي الله عنه وأرضاه خلع كل لباس كان يلبسه، وأبقى ثوباً واحداً،
فكان إذا أراد أن يغتسل يوم الجمعة نشف له ثوبه هذا بعد أن يغسل، واغتسل ثم
لبسه وصعد المنبر، لم يبق قليلاً ولا كثيراً، يقول رضي الله عنه وأرضاه
للناس: أيها الناس! وهو يخطب: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] قال:
ما للشمس تكور؟ ثم قال: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير:2] قال:
ما للنجوم تنكدر؟ ثم بكى حتى صرع على المنبر.
وحج بالناس فوقف في عرفة فأخذ الناس يتسابقون مع الغروب إلى مزدلفة فقال:
[لا والله. ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره، ولكن السابق من غفر له
هذا اليوم ]] ونزل هو والأمراء في منتزه وبستان من البساتين، فلما جلسوا
استأنسوا واستراحوا إلا هو جلس يبكي، قالوا: مالك؟ قال: هذه دنيانا
وبساتيننا، فكيف بنا يوم العرض على الله إذا دخل الناس بساتينهم ولا بساتين لنا؟! فبكى الناس.
عـليك سـلام الله وقفاً فإنني رأيت الكـريم الحر ليس لـه عمـر
إذا شجرات العرف جذت أصولها ففي أي غصن يوجد الورق النضر
لما تولى الخلافة قال لأهله: إني قد آنست عقبة كؤداً لا يجوزها إلا المخف.
تقول امرأته: والله ما كان يأوي إلى فراشه إلا كما يأوي العصفور إلى عشه،
وإنه ليرتجف صدره كل ليلة، فأقول: مالك؟ قال: أريد أن أنام فأتذكر قوله
تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] فلا
يأتيني النوم.
وكان الخطباء في عهده يسبون أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وأرضاه، فنسخ
هذا وأبدل الخطباء بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
[النحل:90].
ميزان التقوى هو الحكم عند عمر بن عبد العزيز:-
كانت موازينه عنده التقوى، يقول: " والله ما رأيت متقياً لله إلا وددت أنني في جلده ".
استدعى يوم تولى الخلافة مولاه مزاحماً ، وقال له: يا مزاحم ! -وهو مولى-
رأيتك تصلي الضحى في شعب من الشعاب، حيث لا يراك إلا الله فأحببتك والله،
فإذا رأيتني ظلمت فخذني بتلابيب ثوبي وقل: اتق الله يا عمر بن عبد العزيز .
بينما هو جالس للناس إذا بثلاثة من الشباب عليهم ثياب جميلة، ومنظر بهي،
دخلوا عليه في ديوان الحكم، فجلسوا بجانبه، فالتفت إليهم وقال لهم: من
أنتم؟ قال أولهم: أنا ابن شريك بن سحماء تولى أبي ولاية كذا وكذا، فأعرض عنه عمر بن عبد العزيز كالمغضب، وقال للثاني: وأنت من أبوك؟ قال: أبي كان والي دار الحسبة في دمشق فأعرض عنه، وأتى إلى الرجل الثالث وقال: أنت ابن من؟ قال له:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
هذا الرجل أبوه قتادة بن النعمان
من الأنصار، شارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد ، فلما
قاتل ضرب بالسيف على عينه، فنزلت عينه حتى أصبحت على خده، فأتى إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فردها بيده الشريفة إلى مكانها، فكانت أجمل من
أختها، فيقول هذا الابن:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فدمعت عينا عمر بن عبد العزيز ، وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
فلذلك رضي عن هذا وغضب عن أولئك؛ لأنهم انتسبوا إلى الدنيا وانتسب هذا إلى
الآخرة، والذي ينتسب إلى الآخرة أعظم عند الله من الذي ينتسب إلى الدنيا.
يتبع