نَبِيُّ الرَّحْمَةِ (1)
رَحْمَتُه صلى الله عليه وسلم بِأَعْدَائِهِ:
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَحْمةً لِلبَشَرِيَّةِ كُلِّها، وَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِذَلِكَ فَقَال: ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
وَقَالَ النِّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً [رواه مسلم].
فَكَانَتْ رَحْمتُه صلى الله عليه وسلم رَحْمةً عَامَّةً شَمِلَتِ المؤْمِنَ وَالكَافِرَ، فَهَا هُوَ الطَّفَيْلُ بْنُ عَمْروٍ الدَّوْسِيُّ ، يَيأْسُ مِن هِدَايةِ قَبِيلَتِه دَوْسٍ، فَيذْهَبُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ دَوْسًا قَد عَصَتْ وَأَبتْ, فَادْعُ اللهَ عَليْها.
فَاسْتَقْبَل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم الْقِبلةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَأَيْقَن النَّاسُ بِهَلاكِ دَوْسٍ إِذَا دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وائتِ بِهمْ [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
دَعَا لَهُمْ بِالهِدَايةِ وَالرَّشَادِ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِم بِالعَذَابِ وَالِاسْتِئْصَالِ, لأَنَّه لَا يُرِيدُ للنَّاسِ إِلَّا الخيْرَ وَلَا يَرْجُو لَهُمْ إِلَّا الفَوْزَ وَالنَّجَاةَ.
وَيَذْهَبُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى الطَّائِفِ لِدَعْوَةِ قَبَائِلِها إِلَى الْإِسْلَام, فَيُقَابِلَهُ أَهْلُهَا بِالجُحُودِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَيُغْرُوا بِه سُفَهَاءَهُمْ، فَيَضْرِبُوهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ مِنْ عَقِبَيْهِ صلى الله عليه وسلم.
وَتَرْوِي عَائِشةُ رَضِي اللهُ عَنْهَا مَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقُولُ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَومٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ - وَكَانَ أَشدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُم - يَوْمَ الْعَقَبةِ، إِذْ عَرضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْد يَا لَيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلى مَا أَردْتُ, فَانْطَلقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي, فَنظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْريلُ, فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ؛ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ, وَقَدْ بَعَثَنِي اللهُ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك فَما شِئْتَ؟ إِنْ شِئتَ أَنْ أُطْبِق عَلَيْهِم الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا [متفق عليه].
إِنَّها الرَّحْمَةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي جَعلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْسَى جِرَاحَه الَّتِي تَسِيلُ, وَقلْبَه المنْكِسِرَ، وَفُؤادَه المكْلُومَ، وَلَا يَتذكَّر سِوَى إِيصَالِ الخيْرِ لِهؤلاءِ النَّاسِ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور وَهِدَايتَهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ المسْتَقِيمِ.
وَيفْتَحُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَيدْخُلُها فِي عَشْرةِ آلافِ مُقَاتِلٍ, وَيُحكِّمُه اللهُ عَزَّ وجَلَّ فِي رِقَاب مَنْ آذَوْه وَطَردُوه وَتَآمَرُوا عَلَى قَتْلِه، وَأَخْرَجُوه مِن بَلدِهِ، وَقَتلُوا أَصْحَابَه وَفَتنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ.
فَيَقُولُ أَحَدُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الفَتْحُ الْأَعْظَمُ اليومَ يَوْمُ الملْحَمَة فَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ اليَوْمَ يَومُ المرْحَمَةِ.
ثُمَّ يخْرُج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى هَؤُلاءِ المنْهزِمِينَ وَقَدْ شَخِصتْ أَبْصَارُهمْ, وَوجِلَتْ قُلوبُهمْ, وَجَفَّتْ حُلُوقُهمْ، يَنْتَظِرونَ مَاذا سَيفْعَلُ بِهم هَذا القَائِدُ المنتَصِرُ، وَهمُ الّذِينَ اعْتادُوا عَلى الْغَدْرِ وَالانْتِقامِ وَالتَّمثيلِ بِقَتْلى المسْلِمينَ كَمَا فَعلُوا فِي أُحُدٍ وَغَيْرِهَا.
فَقَالَ لَهمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا معْشَر قُرَيْشٍ مَا تروْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟.
قَالُوا: خَيْرًا! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أخٍ كَرِيمٍ.
فَقَالَ لَهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ فَانْطلَقوا كَأَنَّهم نُشِروا مِنَ القُبورِ.
فَهذَا العَفْو الشَّاملُ نَتيجةُ الرَّحْمةِ الَّتِي فِي قلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالَّتِي عَظُمَتْ لتَشْمَل أكْثرَ أَعْدَائِهِ إِيذاءً لَه وَلأصْحَابِه, فَلَوْلَا هَذِهِ الرحمةُ لما حَدثَ هَذا الْعَفْوُ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ يَقُول: إِنَّما أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ [رَوَاه الحاكم].