أولاً: الأمر الرباني بتبليغ الرسالة:
عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أصبح نبيا لله
الرحيم الكريم، وجاء جبريل عليه السلام للمرة الثانية، وأنزل الله على نبيه قوله
تعالى: ( يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ` قُمْ فَأَنْذِرْ ` وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ` وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ ) [المدثر: 1-4].
كانت هذه الآيات المتتابعة
إيذانًا للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الماضي قد
انتهى بمنامه وهدوئه، وأنه أمامه عمل عظيم, يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار
والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقوَ على عنائه فإنه
مصدر رسالته ومدد دعوته.
وتعد هذه
الآيات أول أمر بتبليغ الدعوة، والقيام بالتبعة، وقد أشارت هذه الآيات إلى أمور هي
خلاصة الدعوة المحمدية، والحقائق الإسلامية التي بني عليها الإسلام كله، وهي الوحدانية,
والإيمان باليوم الآخر، وتطهير النفوس، ودفع الفساد عن الجماعة، وجلب النفع.
كانت هذه الآيات تهييجًا
لعزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينهض بعبء
ما كُلِّفه من تبليغ رسالات ربه، فيمضي قُدمًا بدعوته، لا يبالي العقبات والحواجز،
كان هذا النداء المتلطف ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إيذانا
بشحذ العزائم, وتوديعًا لأوقات النوم والراحة, وجاء عقب هذا النداء الأمر الجازم
بالنهوض ( قُمْ ) في
عزيمة ناهضة وقوة حازمة، تتحرك في اتجاه تحقيق واجب التبليغ، وفي مجيء الأمر
بالإنذار منفردًا عن التبشير في أول خطاب وجه إلى النبي صلى
الله عليه وسلم بعد فترة الوحي, إيذان بأن رسالته تعتمد على الكفاح الصبور،
والجهاد المرير، ثم زادت الآيات في تقوية عزيمة النبي صلى
الله عليه وسلم، وشد أزره وحضه على المضي قدما إلى غاية ما أمر به، غير
عابئ بما يعترض طريقه من عقبات مهما يكن شأنها فقيل له: ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) أي: لا
تعظم شيئا من أمور الخلق, ولا يتعاظمك منهم شيء, فلا تتهيب فعلا من أفعالهم، ولا
تخشى أحدًا منهم، ولا تعظم إلا ربك الذي تعهدك وأنت في أصلاب الآباء وأرحام
الأمهات، فرباك على موائد فضله، ورعاك بإحسانه وجوده, حتى أخرجك للناس نبيًّا
ورسولاً، بعد أن أعدّك خَلْقًا وخُلُقًا، لتحمل أمانة أعظم رسالاته، ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) فكل
تعظيم وتكبير وإجلال حق لله تعالى وحده، لا يشاركه فيه أحد، أو شيء من مخلوقاته.
وفي قوله: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) فكأنه
قيل له صلى الله عليه وسلم: فأنت على طهرك وتطهرك
بفطرتك في كمال إنسانيتك بما جبلك الله عليه من أكرم مكارم الأخلاق، وبما حباك به
من نبوته ليعدَّك بها ليومك هذا, أحوج إلى أن تزداد في تطهرك النفسي، فتزداد من
المكارم في حياتك مع الناس والأشياء، فأنت اليوم رسول الله إلى العالمين، وكمال
الرسالة في كمال الخلق الاجتماعي, صبرًا، وحلمًا، وعفوًا، وإحسانًا ودُؤُوبًا على
الجد في تبليغ الدعوة إلى الله تعالى, ولا يثنيك إيذاء, ولا يقعدك عن المضي إلى
غايتك فادح البلاء.
وفي قوله: ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) فكأنه
قيل له صلى الله عليه وسلم: ليكن قصدك ونيتك في
تركك ما تركت، فطرة وطبعًا هَجْرَه تكليفًا وتعبدًا لتكون قدوة أمتك، وعنوان
تطهرها بهداية رسالتك.
ثانيًا: بدء الدعوة السرية:
بعد نزول آيات المدثر قام
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله وإلى
الإسلام سرًّا، وكان طبيعيًا أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وأقرب الناس إليه.
1- إسلام السيدة خديجة رضي الله عنها:
كان أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من النساء، بل أول من آمن به على
الإطلاق السيدة خديجة رضي الله عنها، فكانت أول من استمع إلى الوحي الإلهي من فم
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت أول من تلا القرآن بعد أن سمعته من صوت
الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وكانت كذلك أول من تعلم الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتها هو أول مكان تُلي فيه أول
وحي نزل به جبريل على قلب المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم بعد غار حراء.
كان أول شيء فرضه الله من
الشرائع بعد الإقرار بالتوحيد إقامة الصلاة، وقد جاء في الأخبار حديث تعليم الرسول
صلى الله عليه وسلم زوجه خديجة الوضوء والصلاة,
حين افترضت على رسول الله؛ أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية
الوادي فانفجرت منه عين, فتوضأ جبريل عليه السلام, والرسول ينظر ليريه كيف الطهور
للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما رأى جبريل توضأ، ثم قام جبريل عليه السلام فصلى به وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل عليه السلام
فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها, يريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل عليه
السلام، فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى
به جبريل عليه السلام.
2- إسلام علي بن أبي طالب:
وبعد إيمان السيدة خديجة دخل
علي بن أبي طالب في الإسلام، وكان أول من آمن من الصبيان، وكانت سنه إذ ذاك عشر
سنين على أرجح الأقوال، وهو قول الطبري وابن إسحاق،
وقد أنعم الله عليه بأن جعله يتربى في حجر رسوله صلى
الله عليه وسلم قبل الإسلام, حيث أخذه من عمه أبي طالب وضمه إليه.
وكان علي ثالث من أقام الصلاة بعد رسول الله وبعد خديجة رضي
الله عنها.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت
الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه، ومن جميع
أعمامه, وسائر قومه, فيصليان الصلوات فيها, فإذا أمسيا رجعا, ليضمهما ذلك البيت
الطاهر التقي بالإيمان, المفعم بصدق الوفاء وكرم المنبت.
3- إسلام زيد بن حارثة :
هو أول من آمن بالدعوة من
الموالي
حِبّ النبي صلى الله عليه وسلم ومولاه، ومُتَبنَّاه:
زيد بن حارثة الكلبي, الذي آثر رسولَ الله على والده وأهله، عندما جاءوا إلى مكة
لشرائه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فترك
رسول الله الأمر لحارثة فقال زيد لرسول الله: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، وأنت
مني بمنزلة الأب والعم، فقال له والده وعمه: ويحك تختار العبودية على الحرية وعلى
أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، وإني رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار
عليه أحدًا أبدًا.
4- إسلام بنات النبي صلى الله عليه وسلم:
وكذلك سارع إلى الإسلام بنات
النبي صلى الله عليه وسلم، كل من زينب، وأم
كلثوم، وفاطمة ورقية، فقد تأثرن قبل البعثة بوالدهن صلى
الله عليه وسلم في الاستقامة وحسن السيرة، والتنزه عما كان يفعله أهل الجاهلية،
من عبادة الأصنام والوقوع في الآثام، وقد تأثرن بوالدتهن، فأسرعن إلى الإيمان،
وبذلك أصبح بيت النبي صلى الله عليه وسلم أول
أسرة مؤمنة بالله تعالى منقادة لشرعه في الإسلام، ولهذا البيت النبوي الأول مكانة
عظمى في تاريخ الدعوة الإسلامية, لما حباه الله به من مزايا وخصه بشرف الأسبقية في
الإيمان وتلاوة القرآن وإقام الصلاة فهو:
● أول مكان تُلي فيه وحي السماء بعد غار حراء.
● وهو أول بيت ضم المؤمنة
الأولى سابقة السبق إلى الإسلام.
● وهو أول بيت أقيمت فيه الصلاة.
● وهو أول بيت اجتمع فيه المؤمنون الثلاثة السابقون
إلى الإسلام، خديجة وعلي وزيد بن حارثة.
● وهو أول بيت تعهد بالنصرة، ولم يتقاعس فيه فرد من
أفراده كبارا أو صغارا عن مساندة الدعوة.
يحق لهذا البيت أن يكون
قدوة، ويحق لربته أن تكون مثالاً ونموذجًا حيًّا لبيوت المسلمين ولنسائهم ورجال
المؤمنين كافة، فالزوجة فيه طاهرة مؤمنة, مخلصة, وزيرة الصدق والأمان، وابن العم
المحضون والمكفول, مستجيب ومعضد ورفيق، والمتبنى مؤمن صادق مساعد ومعين، والبنات
مصدقات مستجيبات مؤمنات ممتثلات.
وهكذا كان للبيت النبوي
مكانته الأولى, والواجب يدعو إلى أن يكون قدوتنا والأنموذج الذي نسير على هديه في
المعاشرة, ومثالية السلوك بالصدق والتصديق، في الاستجابة والعمل لكل من آمن بالله
ربًّا وبمحمد نبيًّا ورسولاً.
إن الحقيقة البارزة في المنهج الرباني تشير إلى
أهمية بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة، كأول حلقة من حلقات الإصلاح، والبناء،
ثم المجتمع الصالح، ولقد تجلت عناية الإسلام بالفرد المسلم وتكوينه ووجوب أن يسبق
أي عمل آخر، فالفرد المسلم هو حجر الزاوية في أي بناء اجتماعي, ولما كانت الأسرة
التي تستقبل الفرد منذ ولادته وتستمر معه مدة طويلة من حياته، بل هي التي تحيط به
طوال حياته، فهي المحضن المتقدم الذي تتحدد به معالم الشخصية وخصائصها وصفاتها،
كما أنها الوسيط بين الفرد والمجتمع، فإذا كان هذا الوسط سليمًا قويًّا أمد طرفيه
-الفرد والمجتمع- بالسلامة والقوة.
ولهذا اهتم الإسلام بالأسرة
واتجه إليها, يضع لها الأسس التي تكفل قيامها ونموها نموًّا سليمًا، ويوجهها
الوجهة الربانية لتكون حلقة قوية في بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية التي
تسعى لصناعة الحضارة الربانية في دنيا الناس.
5- إسلام أبي بكر الصديق :
كان أبو بكر الصديق أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم
من الرجال الأحرار، والأشراف، فهو من أخص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة, وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما دعوت
أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة، وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم
حين دعوته ولا تردد فيه»،
فأبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو
حسنة من حسناته عليه الصلاة والسلام, لم يكن إسلامه إسلام رجل، بل كان إسلامه
إسلام أمة، فهو في قريش كما ذكر ابن إسحاق في موقع العين منها:
● كان رجلا مألفًا لقومه
محببًا سهلاً.
● وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها, وبما كان فيها من خير
وشر.
● وكان رجلاً تاجرًا.
● ذا خلق ومعروف.
● وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر, لعلمه وتجارته،
وحسن مجالسته.
لقد كان أبو بكر كنزًا من
الكنوز، ادخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي
وهبه الله تعالى إياه, جعله من الموطئين أكنافا، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق
السمح وحده عنصر كافٍ لألفة القوم, وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر»
وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق t النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصديق بأنه أعلمها بأنسابها،
وأعلمها بتاريخها، وما فيه من خير وشر فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل
منه علمًا لا تجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون،
والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائمًا، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن
تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته، وطبقة رجال الأعمال، ورجال
المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة،
فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قصاده، ولطيبته وحسن خلقه تلقى عوام
الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل
طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه
كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيما، ولذلك عندما تحرك في
دعوته للإسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق وهم:
● عثمان بن عفان في الرابعة والثلاثين من عمره.
● عبد الرحمن بن عوف في الثلاثين من عمره.
● سعد بن أبي وقاص وكان في السابعة عشرة من عمره.
● والزبير بن العوام وكان في الثانية عشرة من عمره.
● وطلحة بن عبيد الله وكان في الثالثة عشرة من عمره.
كان هؤلاء الأبطال الخمسة
أول ثمرة من ثمار الصديق أبي بكر t, دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا، وجاء بهم إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فرادى، فأسلموا بين
يديه، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في
تقوية جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهم
أعزه الله وأيده, وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، رجالاً ونساءً، وكان
كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد،
والاثنين، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم
يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام.
إن تحرك أبي بكر في الدعوة إلى الله تعالى يوضح صورة من صور الإيمان بهذا الدين
والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم, صورة
المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به،
دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط
أبي بكر وحماسته إلى أن توفاه الله جل وعلا لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز.
ونلاحظ أن أصحاب الجاه لهم
أثر كبير في كسب أنصار للدعوة، ولهذا كان أثر
أبي بكر في الإسلام أكثر من غيره.
بعد أن كانت صحبة الصديق
لرسول الله، مبنية على مجرد الاستئناس النفسي والخلقي, صارت الأنسة بالإيمان بالله
وحده، وبالمؤازرة في الشدائد، واتخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام من مكانة أبي
بكر، وأُنس الناس به ومكانته عندهم قوة لدعوة الحق، فوق ما كان له عليه الصلاة
والسلام من قوة نفس، ومكانة عند الله وعند الناس.
ومضت الدعوة سرية وفردية على
الاصطفاء, والاختيار للعناصر التي تصلح أن تتكون منها الجماعة المؤمنة, التي ستسعى
لإقامة دولة الإسلام ودعوة الخلق إلى دين رب العباد والتي ستقيم حضارة ربانية ليس
لها مثيل.
6- الدفعة الثانية:
جاء دور
الدفعة الثانية، بعد إسلام الدفعة الأولى، فأول من أسلم من هذه الدفعة: أبو عبيدة
بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن مخزوم بن مرة ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم (برة بنت عبد المطلب) وأخوه من
الرضاع، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعبيدة بن
الحارث بن عبد المطلب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقدامة وعبد الله ابنا مظعون،
وفاطمة بنت الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب، وزوجة سعيد بن زيد، وأسماء بنت أبي
بكر الصديق، وخباب بن الأرت حليف بني زهرة.
7- الدفعة الثالثة:
أسلم عمير بن أبي وقاص أخو
سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم.. بن هذيل, ومسعود
بن القاري، وهو مسعود بن ربيعة، بن عمرو، بن سعيد بن عبد العزى، بن حمالة بن
القارة.
وأسلم سليط بن عمرو، وأخوه
حاطب بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلامة، وخنيس بن حذافة
السهمي، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب وعبد الله بن جحش وأخوه أحمد، وجعفر بن أبي
طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فاطمة بنت المجلل، وأخوه
حطاب بن الحارث, وامرأته فُكَيهة بنت يسار وأخوهما مَعْْمَر بن الحارث، والسائب بن
عثمان بن مظعون، والمطلب ابن أزهر، وامرأته رملة بنت أبي عوف، والنحَّام بن عبد
الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وفهيرة وأمه، وكان عبدًا للطفيل بن
الحارث بن سخبرة، فاشتراه الصديق وأعتقه، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد
شمس بن عبد مناف بن قصي، وامرأته أُمَينة بنت خلف، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن
عبد شمس، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف، وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير بن
عبد ياليل، وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم بن يقظة، وقال ابن هشام: عَنْسي من مَذْحج.
وصهيب بن سنان, هو (سابق الروم).
ومن السابقين إلى الإسلام:
أبو ذر الغفاري، وأخوه أنيس، وأمه.
ومن أوائل السابقين: بلال بن رباح الحبشي.
وهؤلاء السابقون من جميع
بطون قريش, عدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفرًا.
وقال ابن إسحاق: ثم دخل
الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام في مكة، وتُحدِّث
به.
ويتضح من عرض الأسماء
السابقة، أن السابقين الأولين إلى الإسلام كانوا خيرة أقوامهم، ولم يكونوا كما يقول
بعض الباحثين في السيرة:إنهم من حثالة الناس، أو من الأرقاء الذين أرادوا استعادة
حريتهم أو ما شابه ذلك– وجانب الصواب بعض كُتَّاب السيرة لدى حديثهم عن السابقين
الأولين إلى الإسلام، عندما وصفوهم بأن معظمهم كان خليطـًا من الفقراء والضعفاء
والأرقاء فما الحكمة في ذلك؟).
وبقولهم: كان رصيد هذه
الدعوة بعد سنوات ثلاث من بدايتها, أربعين رجلاً وامرأة, عامتهم من الفقراء
والمستضعفين والموالي والأرقاء، وفي مقدمتهم أخلاط من مختلف الأعاجم: صهيب الرومي
وبلال الحبشي)
إن البحث الدقيق يثبت أن
مجموع من أشير إليهم بالفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء والأخلاط من مختلف
الأعاجم هو ثلاثة عشر، ونسبة هذا العدد من العدد الكلي من الداخلين في الإسلام لا
يقال «أكثرهم» ولا «معظمهم» ولا «عامتهم».
إن الذين أسلموا يومئذ لم
يكن يدفعهم دافع دنيوي، وإنما هو إيمانهم بالحق الذي شرح الله صدورهم له, ونصرة
نبيه صلى الله عليه وسلم, يشترك في ذلك الشريف
والرقيق، والغني والفقير, ويتساوى في هذا أبو بكر وبلال وعثمان وصهيب،
رضي الله عنهم.
ويقول
الأستاذ صالح الشامي: نحن لا نريد أن ننفي وجود الضعفاء والأرقاء ولكن نريد أن
ننفي أن يكونوا هم الغالبية - لأن هذا مخالف للحقائق الثابتة – ولو كانوا كذلك
لكانت دعوة طبقية, يقوم فيها الضعفاء والأرقاء ضد الأقوياء وأصحاب السلطة والنفوذ،
ككل الحركات التي تقاد من خلال البطون، إن هذا لم يدر بخلد أي من المسلمين وهو
يعلن إسلامه، إنهم يدخلون في هذا الدين على اعتبارهم إخوة في ظل هذه العقيدة،
عبادا لله، وإنه لمن القوة لهذه الدعوة أن يكون غالبية أتباعها في المرحلة الأولى
بالذات من كرام أقوامهم، وقد آثروا في سبيل العقيدة أن يتحملوا أصنافًا من الهوان
ما سبق لهم أن عانوها أو فكروا بها.
لقد كان
الإسلام ينساب إلى النفوس الطيبة, والعقول النيرة, والقلوب الطاهرة التي هيأها
الله لهذا الأمر، ولقد كان في الأوائل خديجة وأبو بكر وعلى وعثمان والزبير، وعبد
الرحمن وطلحة، وأبو عبيدة وأبو سلمة والأرقم وعثمان بن مظعون، وسعيد بن زيد، وعبد
الله بن جحش، وجعفر بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وفاطمة بنت الخطاب وخالد بن
سعيد، وأبو حذيفة بن عتبة وغيرهم، رضي الله عنهم, وهم من سادة القوم وأشرافهم.
هؤلاء هم السابقون الأولون
الذين سارعوا إلى الإيمان والتصديق بدعوة النبي صلى الله
عليه وسلم.
ثالثـًا: استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة:
استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته السرية, يستقطب عددا من
الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه، وخاصة الذين يتمكن من ضمهم في سرية تامة,
بعد إقناعهم بالإسلام، وهؤلاء كانوا نعم العون والسند للرسول صلى الله عليه وسلم لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية,
وهذه المرحلة العصيبة من حياة دعوة الرسول صلى الله عليه
وسلم ظهرت فيها الصعوبة والمشقة, في تحرك الرسول صلى
الله عليه وسلم ومن آمن معه بالدعوة، فهم لا يخاطبون إلا من يأمنوا من شره،
ويثقون به، وهذا يعني أن الدعوة خطواتها بطيئة وحذرة, كما تقتضي صعوبة المواظبة
على تلقي مطالب الدعوة من مصدرها، وصعوبة تنفيذها، إذا كان الداخل في هذا الدين
ملزمًا منذ البداية بالصلاة, ودراسة ما تيسر من القرآن -مثلا- ولم يكن يستطيع أن
يصلي بين ظهراني قومه، ولا أن يقرأ القرآن، فكان المسلمون يتخفون في الشعاب
والأودية إذا أرادوا الصلاة.
1- الحس الأمني:
إن من
معالم هذه المرحلة، الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على
وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وكان صلى الله
عليه وسلم يكوّن من بعض المسلمين أُسرًا (مجموعات) وكانت هذه الأسر تختفي
اختفاء استعداد وتدريب, لا اختفاء جبن وهروب حسب ما تقتضيه التدبيرات، فبدأ الرسول
عليه الصلاة والسلام ينظم أصحابه من أسر ومجموعات صغيرة، فكان الرجل يجمع الرجل
والرجلين إذا أسلما, عند الرجل به قوة وسعة من المال، فيكونان معه ويصيبان منه فضل
طعامه، ويجعل منهم حلقات, فمن حفظ شيئًا من القرآن علم من لم يحفظ، فيكون من هذه
الجماعات أسر أخوة، وحلقات تعليم.
إن المنهج الذي سار عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أتباعه هو:
القرآن الكريم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يربي أصحابه تربية شاملة في العقائد والعبادات والأخلاق والحس الأمني وغيرها؛
ولذلك نجد في القرآن الكريم آيات كريمة تحدثت عن الأخذ بالحس الأمني؛ لأن من أهم
عوامل نهوض الأمة أن ينشأ الحس الأمني في جميع أفرادها، وخصوصا في الصف المنظم
الذي يدافع عن الإسلام, ويسعى لتمكينه في دنيا الناس، ولذلك نجد النواة الأولى
للتربية الأمنية كانت في مكة, وتوسعت مع توسع الدعوة ووصولها إلى دولة.
ولا شك أن الصحابة كانوا
يجمعون المعلومات عمن يريدون دعوته للإسلام وكانت القيادة تشرف على ذلك، ولذلك قام
النبي صلى الله عليه وسلم بترتيب جهاز أمني رفيع
يشرف على الاتصال المنظم بين القيادة والقواعد ليضمن تحقيق مبدأ السرية.
إن السيرة النبوية غنية في
أبعادها الأمنية, منذ تربية الأفراد, وحتى بعد قيام الدولة، وتظهر الحاجة للحركات
الإسلامية والدول المسلمة, لإيجاد أجهزة أمنية متطورة (في زمننا المعاصر) تحمي
الإسلام والمسلمين من أعدائها اليهود والنصارى والملاحدة، وتعمل على حماية الصف
المسلم في الداخل من اختراقات الأعداء فيه، وتجتهد لرصد أعمال المعارضين
والمحاربين للإسلام، حتى تستفيد القيادة من المعلومات التي تقدمها لها أجهزتها
المؤمنة الأمنية، ولا بد أن تؤسس هذه الأجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم
والسنة النبوية، وتكون أخلاق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال الأمن المسلمين.
إن اهتمام المسلمين بهذا الأمر
يجنبهم المفاجآت العدوانية «إذا عرفت العدو وعرفت نفسك, فليس هناك ما يدعوك إلى أن
تخاف نتائج مائة معركة، وإذا عرفت نفسك, ولم تعرف العدو فإنك ستواجه الهزيمة في كل
معركة».
كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرف بنفسه على تربية أصحابه في
كافة الجوانب، ووزعهم في أسر، فمثلا كانت فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد،
وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، كانوا في أسرة واحدة مع نعيم بن عبد الله
النحام بن عدي، وكان معلمهم خباب بن الأرت، وكان اشتغالهم بالقرآن لا يقتصرون منه
على تجويد تلاوته وضبط مخارج حروفه ولا على الاستكثار من سرده، والإسراع في قراءته,
بل كان همهم دراسته وفهمه, ومعرفة أمره ونهيه والعمل به.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بالتخطيط الدقيق المنظم ويحسب
لكل خطوة حسابها، وكان مدركًا تمامًا أنه سيأتي اليوم الذي يؤمر فيه بالدعوة علنًا
وجهرًا، وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتها وقوتها، فحاجة الجماعة المؤمنة المنظمة
تقتضي أن يلتقي الرسول المربي مع أصحابه، فكان لا بد من مقر لهذا الاجتماع، فقد
أصبح بيت خديجة رضي الله عنها لا يتسع لكثرة الأتباع، فوقع اختيار النبي وصحبه على
دار الأرقم بن أبي الأرقم، إذ أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأمر يحتاج إلى
الدقة المتناهية في السرية والتنظيم، ووجوب التقاء القائد المربي بأتباعه في مكان
آمن بعيد عن الأنظار، ذلك أن استمرار اللقاءات الدورية المنظمة بين القائد وجنوده,
خير وسيلة للتربية العملية والنظرية، وبناء الشخصية القيادية الدعوية.
ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد أتباعه ليكونوا بناة الدولة
وحملة الدعوة، وقادة الأمم, هو حرصه الشديد على هذا التنظيم السري الدقيق، فلو كان
مجرد داعية لما احتاج الأمر إلى كل هذا.
ولو كان يريد مجرد إبلاغ
الدعوة للناس لكان خير مكان في الكعبة حيث منتدى قريش كلها، ولكن الأمر –غير ذلك–
فلابد من السرية التامة في التنظيم، وفي المكان الذي يلتقي فيه مع أصحابه، وفي
الطريقة التي يحضرون بها إلى مكان اللقاء.
2- دار الأرقم بن أبي الأرقم (مقر القيادة):
تذكر كتب السيرة أن اتخاذ
دار الأرقم مقرًا لقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم
كان بعد المواجهة الأولى, التي برز فيها سعد بن أبي وقاص t. قال ابن إسحاق: «كان أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم،
فبينما سعد بن أبي وقاص t في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعب من شعاب مكة إذ ظهر عليه نفر من المشركين
وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص
يومئذ رجلاً من المشركين بلَحي بعير فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام».
أصبحت
دار الأرقم السرية مركزًا جديدًا للدعوة يتجمع فيه المسلمون، ويتلقون عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كل جديد من الوحي، ويستمعون
له –عليه الصلاة والسلام– وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه
كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم, عليه الصلاة والسلام على عينه. كما تربى هو على
عين الله عز وجل، وأصبح هذا الجمع هو قرة عين النبي صلى
الله عليه وسلم.
رابعًا: أهم خصائص الجماعة الأولى التي تربت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كانت الجماعة الأولى التي
تربت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
برزت فيها خصائص مهمة جعلتها تتقدم بخطوات رصينة نحو صياغة الشخصية المسلمة، التي
تقيم الدولة المؤمنة، وتصنع الحضارة الرائعة، فمن أبرز هذه الخصائص:
1- الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم
بين يديه:
إن العلم والفقه الصحيح
الكامل في العقائد والشرائع, والآداب وغيرها لا يكون
إلا عن طريق الوحي المنزل, قرآنـًـا وسنة؛ والتزام الدليل الشرعي هو منهج
الذين أنعم الله عليهم بالإيمان الصحيح
قال تعالى: ( وَمِمَّنْ
خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) [الأعراف: 181].
لقد كان الصحابة رضي الله
عنهم أعظم من غيرهم انتفاعا بالدليل والوحي، وتسليمًا له، لأسباب عديدة، منها:
أ- نزاهة قلوبهم، وخلوها من
كل ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص، واستعدادها التام لقبول ما جاء عن الله
ورسوله والإذعان والانقياد له انقيادا مطلقا، دون حرج ولا تردد، ولا إحجام.
ب- معاصرتهم لوقت التشريع
ونزول الوحي، ومصاحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم,
ولذلك كانوا أعلم الناس بملابسات الأحوال التي نزلت النصوص فيها، والعلم بملابسات
الواقعة أو النص من أعظم أسباب فقهه وفهمه وإدراك مغزاه.
ج- وكانت النصوص –قرآنـًا
وسنة– تأتي في كثير من الأحيان لأسباب تتعلق بهم –بصورة فردية، أو جماعية– فتخاطبهم
خطابًا مباشرًا، وتؤثر فيهم أعظم التأثير؛ لأنها تعالج أحداثًا واقعية، وتعقب في
حينها، حيث تكون النفوس مشحونة بأسباب التأثر متهيئة لتلقي الأمر والاستجابة له.
فكانوا إذا سمعوا أحدا
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته
أبصارهم، كما يقول ابن عباس.
2- التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان:
كان الصحابة يتعاملون مع
العلم الصحيح ليس كحقائق علمية مجردة يتعامل معها العقل فحسب، دون أن يكون لها
علاقة بالقلب والجوارح، فقد أورثهم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله: محبته
والتأله إليه، والشوق إلى لقائه, والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن،
وأورثهم تعظيمه، والخوف منه، والحذر من بأسه وعقابه، وبطشه ونقمته وأورثهم رجاء ما
عنده، والطمع في جنته ورضوانه، وحسن الظن به، فاكتملت لديهم بذلك آثار العلم بالله
والإيمان به، وهذه المعاني الوجدانية هي المقصود الأعظم في تحصيل العلم، وإذا
فقدت، فلا ينفع مع فقدها علم، بل هو ضرر في العاجل والآجل.
وكان الصحابة فرسانـًا بالنهار،
ورهبانا بالليل، لا يمنعهم علمهم وإيمانهم وخشوعهم لله من القيام بشؤونهم الدنيوية،
من بيع، وشراء، وحرث، ونكاح، وقيام على الأهل والأولاد وغيرهم فيما يحتاجون.
خامسًا: شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة:
كانت دار الأرقم بن أبي
الأرقم أعظم مدرسة للتربية والتعليم عرفتها البشرية, كيف لا، وأستاذها هو رسول
الله صلى الله عليه وسلم أستاذ البشرية كلها،
وتلاميذها هم الدعاة والهداة، والقادة الربانيون, الذين حرروا البشرية من رق
العبودية وأخرجوهم من الظلمات إلى النور، بعد أن رباهم الله تعالى على عينه تربية
غير مسبوقة ولا ملحوقة.
في دار الأرقم وفق الله
تعالى رسوله إلى تكوين الجماعة الأولى من الصحابة, حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشرية.
لقد استطاع الرسول المربي
الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يربي في تلك
المرحلة السرية، وفي دار الأرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد، والجهاد
والدعوة فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.
كانت قدرة النبي صلى
الله عليه وسلم فائقة في اختيار العناصر الأولى للدعوة في خلال السنوات
الثلاث الأولى من عمر الدعوة، وتربيتهم وإعدادهم إعدادا خاصا ليؤهلهم لاستلام
القيادة، وحمل الرسالة، فالرسالات الكبرى والأهداف الإنسانية العظمى لا يحملها إلا
أفذاذ الرجال، وكبار القادة, وعمالقة الدعاة.
كانت دار الأرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا
وجامعات العالم، التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من الرعيل الأول
(السابقين الأولين) فكان ذلك اللقاء الدائم تدريبًا عمليًا لجنود المدرسة على
مفهوم الجندية والسمع والطاعة والقيادة وآدابها وأصولها، ويشحذ فيه القائد الأعلى
جنده وأتباعه بالثقة بالله والعزيمة والإصرار، ويأخذهم بالتزكية والتهذيب،
والتربية والتعليم، كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم، ويقوي الهمم، ويدفع إلى
البذل والتضحية والإيثار.
كانت نقطة البدء في حركة
التربية الربانية الأولى لقاء المدعو بالنبي صلى الله
عليه وسلم، فيحدث للمدعو تحول غريب, واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم, فيخرج المدعو من دائرة الظلام إلى
دائرة النور، ويكتسب الإيمان ويطرح الكفر، ويقوى على تحمل الشدائد والمصائب في
سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة.
كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرك الأول للإسلام، وشخصيته صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير على
الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض, والعظمة
دائما تُحب، وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون, يلتصقون بها التصاقًا
بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك
بُعد آخر له أثر في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه, فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب
العظماء من الناس، ولكن أيضا لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو
معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم والرسول العظيم، ثم
يصبحان شيئًا واحدًا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية، حب عميق شامل
للرسول البشر, أو للبشر الرسول, ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه،
فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية
كلها كذلك.
كان هذا الحب -الذي حرك
الرعيل الأول من الصحابة- هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها
الذي تنطلق منه.
سادسًا: المادة الدراسية في دار الأرقم:
كانت المادة الدراسية التي
قام بتدريسها النبي صلى الله عليه وسلم في دار
الأرقم القرآن الكريم, فهو مصدر التلقي الوحيد، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد
مصدر التلقي وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج والفكرة المركزية التي
يتربى عليها الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وكان روح القدس
ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيسمعها الصحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم
مباشرة، فتسكب في قلوبهم، وتتسرب في أرواحهم، وتجري في عروقهم مجرى الدم، وكانت
قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد,
بقيمه ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه وتطلعاته، لقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم حرصًا شديدًا على أن يكون القرآن الكريم وحده هو
المادة الدراسية، والمنهج الذي تتربى عليه نفوس أصحابه, وألا يختلط تعليمه بشيء من
غير القرآن.
لقد تلقى الرعيل الأول
القرآن الكريم بجدية ووعي, وحرص شديد, على فهم توجيهاته، والعمل بها بدقة تامة،
فكانوا يلتمسون من آياته ما يوجههم في كل شأن من شؤون حياتهم الواقعية،
والمستقبلية.
فنشأ الرعيل الأول على
توجيهات القرآن الكريم، وجاؤوا صورة عملية لهذه التوجيهات الربانية، فالقرآن كان هو
المدرسة الإلهية، التي تخرج فيها الدعاة والقادة الربانيون، ذلك الجيل الذي لم
تعرف له البشرية مثيلاً من قبل ومن بعد, لقد أنزل الله القرآن الكريم على قلب
رسوله، لينشئ به أمة ويقيم به دولة، وينظم به مجتمعًا, وليربي به ضمائرَ وأخلاقًا
وعقولاً، ويبني به عقيدة وتصورًا وأخلاقًا، ومشاعرَ، فخرّج الجماعة المسلمة الأولى
التي تفوقت على سائر المجتمعات في جميع المجالات، العقدية، والروحية والخلقية،
والاجتماعية والسياسية والحربية.
سابعًا: الأسباب في اختيار دار الأرقم:
كان اختيار دار الأرقم لعدة
أسباب منها:
1- أن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، فما كان يخطر
ببال أحد أن يتم لقاء محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بداره.
2- أن الأرقم بن الأرقم من بني مخزوم, وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس
والحرب ضد بني هاشم. فلو كان الأرقم معروفا بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون
اللقاء في داره؛ لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.
3- أن الأرقم بن أبي الأرقم كان فتى عند إسلامه، فلقد
كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع
الإسلامي, فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار
أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام.
فقد يخطر
على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الأغلب في دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكر أو غيره، ومن أجل هذا نجد أن
اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبدا أن قريشًا
داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء.
ثامنًا: من صفات الرعيل الأول:
كانت الفترة الأولى من عمر
الدعوة, تعتمد على السرية والفردية, وكان التخطيط النبوي دقيقًا ومنظمًا، وكان
تخطيطًا سياسيًا محكمًا، فما كان اختيار رسول الله صلى
الله عليه وسلم لدار الأرقم لمجرد اجتماع المسلمين فيها لسماع نصائح ومواعظ
وإرشادات، وإنما كانت مركزًا للقيادة، ومدرسة للتعليم والتربية والإعداد والتأهيل
للدعوة والقيادة، بالتربية الفردية العميقة الهادئة، وتعهد بعض العناصر والتركيز
عليها تركيزًا خاصًّا، لتأهيلها لأعباء الدعوة والقيادة، فكان الرسول المربي قد
حدد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة وتنظيم حكيم، اشترك في ذلك الكل، الكل يعرف دوره
المنوط به، والكل يدرك طبيعة الدعوة والمرحلة التي تمر بها، والكل ملتزم جانب
الحيطة والحذر والسرية والانضباط التام.
كان بناء الجماعة المؤمنة في
الفترة المكية يتم بكل هدوء وتدرج وسرية, وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى
عز وجل المتمثل في قوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ
عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا
قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) [الكهف: 28].
فالآية الكريمة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على تقصير وأخطاء
المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم, خاصة إن كانت خاطئة، وأن يصبر
على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن
يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة، وأن لا يغرر به مغرر ليبعده عنهم، وأن لا
يسمع فيهم منتقصًا، ولا يطيع فيهم متكبرًا, أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور
وجوهرها.
إن الآيات الكريمة السابقة
من سورة الكهف تصف لنا بعض صفات الجماعة المسلمة الأولى والتي من أهمها:
أ- الصبر
في قوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ): إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم وفي أحاديث
النبي صلى الله عليه وسلم, ويوصي الناس بها بعضهم
بعضا، وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع للفئة الناجية من الخسران.
قال تعالى: ( [font:37a8=