دروس وعبر وفوائد:أ- لم يدخل الرسول
صلى
الله عليه وسلم في معركة جانبية حول أفضليته على أبيه وجده أو أفضليتهما
عليه، ولو فعل ذلك لقضي الأمر دون أن يسمع عتبة شيئًا.
ب- لم يخض
صلى الله
عليه وسلم معركة جانبية حول العروض المغرية، وغضبه الشخصي لهذا الاتهام،
إنما ترك ذلك كله لهدف أبعد، وترك عقبة يعرض كل ما عنده، وبلغ من أدبه
صلى الله عليه وسلم أن قال:
«أفرغت
يا أبا الوليد؟» فقال: نعم.
ج- كان جواب رسول الله
صلى الله عليه وسلم حاسمًا، إن اختياره لهذه الآيات
لدليل على حكمته، وقد تناولت الآيات الكريمة قضايا رئيسية منها: إن هذا القرآن
تنزيل من الله، بيان موقف الكافرين وإعراضهم، بيان مهمة الرسول, وأنه بشر، بيان أن
الخالق واحد هو الله, وأنه خالق السماوات والأرض، بيان تكذيب الأمم السابقة وما
أصابها، وإنذار قريش صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
د- خطورة المال، والجاه، والنساء على الدعاة،
فكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق المال، وكم عرضت الآلاف من الأموال على
الدعاة ليكفوا عن دعوتهم، والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المقتدون بالنبي
صلى الله عليه وسلم، وخطورة الجاه واضحة؛ لأن الشيطان
في هذا المجال يزين ويغوي بطرق أكبر وأمكر وأفجر. والداعية الرباني هو الذي يتأسى
برسول الله
صلى الله عليه وسلم في حركته وأقواله
وأفعاله, ولا ينسى الهدف الذي عاش له ويموت من أجله:
( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ ) [الأنعام: 162،163]، وأما النساء فقد قال صلى الله عليه
وسلم:
«ما تركت فتنة على أمتي أضر على الرجال من النساء»سواء كانت زوجة تثبط الهمة عن الدعوة والجهاد، أو تسليط بعض الفاجرات عليه ليسقطنه
في شباكهن، أو في تهيئة أجواء البغي والإثم والمجون ليرتادها خطوة بعد خطوة، أيًّا
كانت, فإنها فتنة عظيمة في الدين, فها هي قريش تعرض على رسول الله
صلى الله عليه وسلم نساءها، يختار عشرًا منهن، أجملهن
وأحسنهن يكن زوجات له, إن كان عاجزًا عن الزواج من أكثر من واحدة، إن خطر المرأة
حين لا تستقيم على منهج الله, أشد من خطر السيف المصلت على الرقاب, فعلى الدعاة أن
يقتدوا بسيد الخلق, ويتذكروا دائما قول يوسف عليه السلام:
( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ
وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ
الْجَاهِلِينَ ` فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [يوسف:33-34].
هـ- تأثر عتبة من موقف النبي
صلى الله عليه وسلم: وكان هذا التأثير واضحًا لدرجة أن
أصحابه أقسموا على ذلك التأثير قبل أن يخبرهم، فبعد أن كان العدو ينوي القضاء على
الدعوة، إذا به يدعو لعكس ذلك, فيطلب من قريش أن تخلي بين محمد
صلى الله عليه وسلم وما يريد.
و- استمع الصحابة لما حدث بين النبي
صلى الله عليه وسلم وبين عتبة، وكيف رفض حبيبهم
صلى الله عليه وسلم كل عروضه المغرية، فكان ذلك درسًا
تربويًّا خالط أحشاءهم، تعلموا منه الثبات على المبدأ، والتمسك بالعقيدة، ووضع
المغريات تحت أقدام الدعاة.
ز- تعلم الصحابة من الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم الحلم ورحابة الصدر, فقد استمع
صلى الله عليه وسلم إلى ترهات عتبة بن ربيعة ونيله منه
وقوله عنه: (إن في قريش ساحرًًا)، و(إن في قريش كاهنًا)، (ما رأينا سخلة أشأم على
قومك منك)، و(إن كان بك رَئِيٌّ من الجن) فقد أعرض عنه
صلى
الله عليه وسلم وأغض عن هذا السباب بحيث لا يصرفه ذلك دعوته وتبليغه إياها
لسيد بني عبد شمس, فقد كانت كل كلمة تصدر من سيد الخلق
صلى
الله عليه وسلم مبدأ يحتذى، وكل تصرف دينًا يتبع، وكل إغضاء خلقًا يتأسى
به.
وذكرت بعض كتب السيرة بأن قيادات مكة
دخلوا في مفاوضات بعد ذلك مع رسول الله
صلى الله عليه
وسلم وعرضوا عليه إغراءات تلين أمامها القلوب البشرية ممن أراد الدنيا,
وطمع في مغانمها إلا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلماتخذ موقفا حاسمًا في وجه الباطل دون مراوغة أو مداهنة, أو دخول في دهاء سياسي, أو
محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء قريش؛ لأن قضية العقيدة تقوم على
الوضوح والصراحة والبيان بعيدة عن المداهنة والتنازل؛ ولذلك رد رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
«ما بي
ما تقولون, ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم،
ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا
فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من
الدنيا والآخرة، وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».
بهذا الموقف الإيماني الثابت رجع كيدهم في
نحورهم، وثبتت قضية من أخطر قضايا العقيدة الإسلامية وهي خلوص العقيدة من أي شائبة
غريبة عنها سواء في جوهرها أو في الوسيلة الموصلة إليها.
لكم دينكم ولي دينولما رأى المشركون صلابة المسلمين
واستعلاءهم بدينهم, ورفعة نفوسهم فوق كل باطل، ولما بدأت خطوط اليأس في نفوسهم من
أن المسلمين يستحيل رجوعهم عن دينهم سلكوا مهزلة أخرى من مهازلهم الدالة على طيش
أحلامهم, ورعونتهم الحمقاء، فأرسلوا إلى النبي
صلى الله
عليه وسلم الأسود بن عبد المطلب, والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص
بن وائل، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد, وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في
الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما
نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه». فأنزل الله فيهم:
( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ` لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ` وَلاَ
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ` وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا
عَبَدتُّمْ ` وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ` لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ
دِينِ ) [الكافرون].
ومثل هذه السورة آيات أخرى تشابهها في
إعلان البراء من الكفر وأهله, مثل
قوله تعالى:
( وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي
عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ
مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) [يونس: 41].
وقوله تعالى
( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ ` قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا
عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ
وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) [الأنعام: 56،57].
ولقد بينت سورة الكافرون بأن طريق الحق
واحد لا عوج فيه، ولا فجاج له، إنه العبادة الخالصة لله وحده رب العالمين، فنزلت
هذه السورة على الرسول
صلى الله عليه وسلمللمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق، نعم
نزلت نفيًا بعد نفي, وجزمًا بعد جزم، وتوكيدًا بعد توكيد، بأنه لا لقاء بين الحق
والباطل، ولا اجتماع بين النور والظلام، فالاختلاف جوهري كامل يستحيل معه اللقاء
على شيء في منتصف الطريق، والأمر لا يحتاج إلى مداهنة أو مراوغة، نعم فالأمر هنا
ليس مصلحة ذاتية، ولا رغبة عابرة، ولا سمًّا في عسل، وليس الدين لله والوطن للجميع
كما تزعم الجاهلية المعاصرة، ويدعي المنافقون والمستغربون الذين يتبعون الضالين
والمغضوب عليهم، ولا كما يعتقد الملحدون أعداء الله سبحانه في كل مكان، كان الرد
حاسمًا على زعماء قريش المشركين، ولا مساومة، ولا مشابهة، ولا حلول وسط، ولا
ترضيات شخصية، فإن الجاهلية جاهلية والإسلام إسلام، في كل زمان ومكان، والفارق
بينهم بعيد كالفرق بين التبر والتراب، والسبيل الوحيد هو الخروج عن الجاهلية
بجملتها إلى الإسلام بجملته عبادة وحكما، وإلا فهي البراءة التامة والمفاصلة
الكاملة والحسم الصريح بين الحق والباطل في كل زمان
( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ).
وجاء وفد آخر بعد فشل الوفد السابق، يتكون
من عبد الله بن أبي أمية، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن
أبي قيس، والعاص بن عامر جاء ليقدم عرضًا آخر للتنازل عن بعض ما في القرآن، فطلبوا
من النبي
صلى الله عليه وسلم أن ينزع من القرآن
ما يغيظهم من ذم آلهتهم، فأنزل الله لهم جوابًا حاسمًا، قال تعالى:
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا
يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) [يونس: 15].
وهذه الوفود والمفاوضات تبين مدى
الفشل الذي أصاب زعماء قريش في عدم حصولها على التنازل الكلي عن الإسلام، الأمر
الذي جعلها تلجأ إلى طلب الحصول على شيء من التنازل، ويلاحظ أن التنازل الذي طلبوه
في المرة الأولى، أكبر مما طلبوه في المرة الثانية، وهذا يدل على تدرجهم في
التنازل من الأكبر إلى الأصغر، علهم يجدون آذانًا صاغية لدى قائد الدعوة، كما أنهم
كانوا يغيرون الأشخاص المتفاوضين، فالذين تفاوضوا مع الرسول
صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى غير الذين تفاوضوا
معه في المرة الثانية، ما خلا الوليد بن المغيرة وذلك حتى لا تتكرر الوجوه، وفي
ذات الوقت تنويع الكفاءات, والعقول المفاوضة، فربما أثر ذلك في نظرهم بعض الشيء،
وفي هذا درس للدعاة إلى يوم القيامة؛ بأن لا تنازل عن الإسلام ولو كان هذا التنازل
شيئًا يسيرًا، فالإسلام دعوة ربانية ولا مجال فيها للمساومة إطلاقًا، مهما كانت
الأسباب والدوافع، والمبررات (وعلى الدعاة اليوم الحذر من مثل هذه العروض،
والإغراءات المادية، التي قد لا تعرض بطريق مباشر، فقد تأخذ شكلاً غير مباشر، في
شكل وظائف عليا، أو عقود عمل مجزية، أو صفقات تجارية مربحة، وهذا ما تخطط له
المؤسسات العالمية المشبوهة لصرف الدعاة عن دعوتهم وبخاصة القيادين منهم، وهناك
تعاون تام في تبادل المعلومات بين هذه المؤسسات التي تعمل من مواقع متعددة لتدمير
العالم الإسلامي) ولقد جاء في التقرير الذي قدمه (ريتشارد ب. ميشيل) أحد كبار
العاملين في مجال الشرق الأوسط، لرصد الصحوة الإسلامية، وتقديم النصح بكيفية
ضربها, جاء في هذا التقرير: وضع تصور لخطة جديدة يمكن من خلالها تصفية الحركات
الإسلامية، فكان من بين فقرات هذا التقرير فقرة خاصة بإغراء قيادات الدعوة، فاقترح
لتحقيق ذلك الإغراء ما يلي:
أ- تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا،
حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلامية فارغة المضمون، وغيرها من الأعمال التي تستنفد
جهدهم، وذلك مع الإغداق عليهم أدبيًّا وماديًا، وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم،
وبذلك يتم استهلاكهم محليًّا، وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية.
ب- العمل على جذب ذوي الميول التجارية
والاقتصادية, إلى المساهمة في المشروعات ذات الأهداف المشبوهة، التي تقام في المنطقة
العربية لمصالح أعدائها.
ج- العمل على إيجاد فرص عمل, وعقود مجزية في
البلاد العربية الغنية، الأمر الذي يؤدي إلى بُعدهم عن النشاط الإسلامي.
فالمتدبر في النقاط الثلاث السابقة، يلاحظ
أنها إغراءات مادية غير مباشرة، وبنظرة فاحصة للعالم الإسلامي اليوم، نلاحظ أن هذه
النقاط تنفذ بكل هدوء, فقد أشغلت المناصب العليا بعض الدعاة، واستهلكت بعض الدول
العربية الغنية جمًا غفيرًا من الدعاة، وألهت التجارة بعضهم.
ثامنًا: أسلوب المجادلة ومحاولة
التعجيز: كان النبي
صلى
الله عليه وسلم قد أقام الحجج والبراهين والأدلة على صحة دعوته, وكان
صلى الله عليه وسلم يتقن اختيار الأوقات، وانتهاز الفرص
والمناسبات، ويقوى على الرد على الشبهات مهما كان نوعها، وقد استخدم في مجادلته مع
الكفار أساليب كثيرة, استنبطها من كتاب الله تعالى في إقامة الحجة العقلية,
واستخدام الأقيسة المنطقية, واستحضار التفكير والتأمل، ومن الأساليب التي استخدمها
صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة:
1- أسلوب المقارنة:وذلك بعرض أمرين: أحدهما هو الخير المطلوب
الترغيب فيه، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه، وذلك باستثارة العقل, للتفكر في
كلا الأمرين, وعاقبتهما الوصول -بعد المقارنة- إلى تفضيل الخير واتِّباعه:
قال تعالى:
( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ
مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأنعام: 122].
قال ابن كثير في تفسيره: «هذا مثل ضربه
الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتًا أي: في الضلالة هالكًا حائرًا، فأحياه الله, أي:
أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله».
2- أسلوب التقرير:وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة
العقلية, إلى الإقرار بالمطلوب, الذي هو مضمون الدعوة، قال تعالى:
( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ` أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ ` أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ` أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ
فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ` أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ
الْبَنُونَ ` أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ` أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ
فَهُمْ يَكْتُبُونَ ` أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ` أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ
اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ` وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ
السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ` فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) [الطور: 35-45].
قال ابن كثير في تفسيره: «هذا المقام في
إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى
( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) أي أُوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا
أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا, بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا
مذكورا».
وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة
العقلية؛ لأن «وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطق الفطرة ابتداء, ولا يحتاج
إلى جدال كثير أو قليل، أما أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه، ولا
يدَّعيه مخلوق، وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة, فإنه لا يبقى
سوى الحقيقة التي يقولها القرآن. وهي أنهم من خلق الله جميعا من خلق الله الواحد
الذي لا يشاركه أحد» والتعبير بالفطرة مضمون الأمر المقرر بداهة في العقل.
3- أسلوب الإمرار والإبطال:وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب
الغرور والصلف, بإمرار أقوالهم, وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة, منعًا للجدل
والنزاع خلوصًا إلى الحجة القاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك, فتبطل الأولى
بالتبع، وفي قصة موسى عليه السلام مع فرعون، نموذج مطول لهذا الأسلوب, حيث أعرض
موسى عن كل اعتراض وشبهة أوردها فرعون، ومضى إلى إبطال دعوى الألوهية لفرعون من
خلال إقامة الحجة العقلية الظاهرة على ربوبية الله وألوهية الله , وذلك في الآيات
من سورة الشعراء قال تعالى:
( قَالَ
فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ` قَالَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ ` قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ
تَسْتَمِعُونَ ` قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ` قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ
الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ` قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ` قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ
إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) [الشعراء: 23-29].
وهكذا كانت الأساليب القرآنية الكريمة, هي
الركيزة في مجادلة رسول الله
صلى الله عليه وسلمللمشركين، ولما احتار المشركون في أمر الرسول
صلى الله
عليه وسلم, ولم يكونوا على استعداد في تصديقه أنه رسول من عند الله, ليس
لأنهم يكذبونه, وإنما عنادًا وكفرًا، كما قال تعالى:
( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ
لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام: 33].
لذلك هداهم تفكيرهم المعوج أن يطلبوا من
الرسول عليه السلام مطالب, ليس الغرض منها التأكد من صدق النبي
صلى الله عليه وسلم, ولكن غرضهم منها التعنت والتعجيز,
وهذا ما طلبوه من الرسول عليه الصلاة والسلام:
أ- أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا: أي يجري لهم
الماء عيونًا جارية.
ب- أو تكون له جنة من نخيل وأعناب يفجر
الأنهار خلالها تفجيرًا، أي تكون له حديقة فيها النخل والعنب, والأنهار تتفجر
بداخلها.
ج- أو يسقط السماء كسفًا: أي يسقط السماء
قطعًا كما سيكون يوم القيامة.
د- أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً.
هـ- أو يكون له بيت من زخرف: أي ذهب.
و- أو يرقى في السماء: أي يتخذ سلمًا يرتقي
عليه ويصعد إلى السماء.
ز- إنزال كتاب من السماء يقرؤونه، يقول
مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد صحيفة,هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان تصبح
موضوعة عند رأسه.
ح- لبوا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فيسير لهم الجبال،
ويقطع الأرض، ويبعث من مضى من آبائهم من الموتى.
إن عملية طلب الخوارق والمعجزات هي خطة
متبعة على مدى تاريخ البشرية الطويل، ورغم حرص النبي
صلى
الله عليه وسلم على إيمان قومه، وتفانيه في ذلك، لكن التربية الربانية التي
تلقاها من ربه، والأدب النبوي الذي تأدب عليه، جعله يرفض طلب المعجزة وإنما كانت
إجابته
صلى الله عليه وسلم:
«ما بهذا بعثت إليكم، إنما
جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم
في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني
وبينكم».
وانصرف رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته مما طمع فيه من
قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه, وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه
التعنتات والرد عليها في قوله سبحانه
( وَقَالُوا
لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ` أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ
مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا ` أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ
كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ
قَبِيلاً ` أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ
وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرُؤُهُ
قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ` وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن
يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا
رَّسُولاً ` قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ` قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) [الإسراء: 90-96].
ونزل قوله تعالى:
( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ
الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ
يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا
وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ
تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) [الرعد: 31].
إن الحكمة في أنهم لم يجابوا لما طالبوا،
لأنهم لم يسألوا مسترشدين وجادين، وإنما سألوا متعنتين ومستهزئين، وقد علم الحق
سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما طلبوا لما آمنوا، وللجُّوا في طغيانهم يعمهون،
ولظلوا في غيهم وضلالهم يترددون، قال سبحانه:
( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ
لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ
أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ` وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ` وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ
الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) [الأنعام: 109-111].
ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة
الربانية ألا يجابوا على ما سألوا؛ لأن سنته سبحانه أنه إذا طلب قوم آيات فأجيبوا،
ثم لم يؤمنوا, عذَّبهم عذاب الاستئصال كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون.
وليس أدل على أن القوم كانوا متعنتين
وساخرين، ومعوقين لا جادين, من أن عندهم القرآن وهو آية من الآيات، وبينة البينات،
ولذلك لما سألوا ما اقترحوا من هذه الآيات وغيرهم رد عليهم سبحانه بقوله:
( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ
إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ` أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً
وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ` قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) [العنكبوت: 50-52].
وقد ذكر عبد الله بن عباس رواية
مفادها: أن قريشا قالت للنبي
صلى الله عليه وسلمادعُ لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك, قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال
فدعاه: فأتاه جبريل فقال: إن ربك –عز وجل– يقرأ عليك السلام، ويقول إن شئت أصبح
لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين،
وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة، والرحمة، فقال: بل باب التوبة والرحمة، فأنزل الله
تعالى:
( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ
بِالآَيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ
مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا )[الإسراء: 59].
لقد كان هدف زعماء قريش من تلك المطالب,
هو شن حرب إعلامية ضد الدعوة والداعية, والتآمر على الحق, كي تبتعد القبائل
العربية عنه
صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يطالبون
بأمور يدركون أنها ليست طبيعة هذه الدعوة؛ ولهذا أصروا عليها، بل لقد صرحوا بأن لو
تحقق شيء من ذلك فلن يؤمنوا أيضا بهذه الدعوة، وهذا كله محاولة منهم لإظهار عجز
الرسول
صلى الله عليه وسلم واتخاذ ذلك ذريعة لمنع
الناس عن اتباعه.
تاسعًا: دور اليهود في العهد المكي
واستعانة مشركي مكة بهم:تحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل طويلاً
في سور كثيرة, بلغت خمسين سورة في المرحلة المكية، وفي المرحلة المدنية, كان دور
اليهود كبيرًا في محاولة إطفاء نور الله, والقضاء على دعوة الإسلام, وعلى حياة رسول
الله
صلى الله عليه وسلم، ولم تحظ ملة من الملل؛
ولا قوم من الأقوام بالحديث عنهم بمثل هذا الشمول, وهذه التفصيلات ما حظي به
اليهود، وحديث القرآن عنهم يتسم بمنهج دقيق يتناسب مع المراحل الدعوية التي مرت
بها دعوة الإسلام، فقد جاءت الآيات الكريمة تشير إلى أن غفلة المشركين عن الحق
الذي جاء به رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعدم
اكتراثهم به وبدعوته, له نماذج بشرية تقدمتهم، مثل عاد وثمود وفرعون وبني إسرائيل
وقوم تبع، وأصحاب الرس
عندما وجدت قريش نفسها عاجزة أمام دعوة
الحق، وكان المعبر عن هذا العجز, النضر بن الحارث الذي صرح قائلا: «يا معشر قريش
إنه والله قد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد.. فانظروا في شأنكم, فإنه والله
لقد نزل بكم أمر عظيم» فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط,
إلى أحبار اليهود بالمدينة, لمعرفة حقيقة هذه الدعوة, لا لكي يتبعوها، ولكن
لإدراكهم أن اليهود قد يمدونهم بأشياء تظهر عجز الرسول
صلى
الله عليه وسلم لمعرفة زعماء مكة بحقد اليهود المنصب على الأنبياء جميعًا
وأصحاب الحق أينما كانوا، كانت بعثة المصطفى
صلى الله
عليه وسلم صدمة قوية لليهود؛ وذلك لأنهم عاشوا في جزيرة العرب على حلم توارثوه
طوال السنين الماضية, وهو أنه سيُبعث نبي مخلص في ذلك الزمان والمكان، فرجوا أن
يكون منهم، آملين أن يخلصهم من الفرقة والشتات الذي كانوا فيه.
كان التقارب بين معسكر الكفر والشرك مع
اليهود, ينسجم مع أهدافهم المشتركة للقضاء على دعوة الإسلام، ولذلك زودوا الوفد
المكي ببعض الأسئلة محاولة لتعجيز النبي
صلى الله عليه
وسلم.
عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي
معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد, وصفوا لهم صفته,
وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم
الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدنية، فسألا أحبار يهود عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله, وقالا:
إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود:
سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول،
فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان
لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن
الروح, ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول
فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش
فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن
نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله
صلى الله
عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول
الله
صلى الله عليه وسلم: أخبركم غدًا بما سألتم
عنه، ولم يستثن فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله
صلى الله
عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل
عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمدًا غدًا واليوم خمس عشرة، قد
أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله
صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشق عليه ما
يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف
فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل
الطواف، وقول الله عز وجل:
( وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ
إِلاَّ قَلِيلاً ).
كانت سورة الكهف قد احتوت على الإجابة
لأسئلتهم, وإشارة إلى أن كهفًا من عناية الله سوف يأوي هؤلاء المستضعفين من أصحاب
محمد
صلى الله عليه وسلم, كما آوى الكهف الجبلي
الفتية المؤمنين الفارين بدينهم من الفتنة.
وأن نفوسًا ستبش في وجوه هذه العصبة, من
أنصار دين الله في يثرب, بالقرب من الذين عاضدوا قريشًا في شكهم، وحاولوا معهم طمس
نور الحق بتلقينهم المنهج التعجيزي في التثبت في أمر النبوة, وهو منهج غير سليم،
فمتى كانت الأسئلة التعجيزية وسيلة التحقق من صدق الرسالة وصاحبها، فهذا نبي الله
موسى عليه السلام وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل لم يعلم تأويل الأحداث الثلاثة
التي جرت أمامه، وأنكر على الخضر تصرفاته, على الرغم من تعهده أن لا يسأله عن شيء
حتى يحدث له منه ذكرًا، على الرغم من كل ذلك لم تؤثر الأحداث وما دار حولها في
نبوة موسى عليه السلام شيئا، ولم يشكك بنو إسرائيل في نبوته, فلم يجعلوا مثل هذه
الأسئلة أسلوبًا للتحقق من صدق الرسالة.
جعل الله هذه المناسبة وسيلة للإشارة إلى
قرب الفرج للعصبة المؤمنة ليجدوا مأوى كما وجد الفتية المأوى، وليبش في وجوههم أهل
المدينة كما بش أهل المدينة في وجه هؤلاء الفتية, ثم ذهبوا إليهم ليكرموهم
وليخلدوا ذكراهم.
عاشرًا: الحصار الاقتصادي
والاجتماعي في آخر العام السابع من البعثة:ازداد إيذاء المشركين من قريش, أمام صبر
الرسول
صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى
وإصرارهم على الدعوة إلى الله، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، وبلوغ الأذى قمته في
الحصار المادي والمعنوي, الذي ضربته قريش ظلمًا وعدوانًا على النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ومن عطف عليهم من قرابتهم.
قال الزهري: «ثم إن المشركين اشتدوا على
المسلمين كأشد ما كانوا, حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت
قريش في مكرها, أن يقتلوا رسول الله
صلى الله عليه وسلمعلانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب, وأمرهم أن يدخلوا رسول
الله
صلى الله عليه وسلم شعبهم, ويمنعوه ممن أراد
قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله
إيمانًا ويقينًا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم, فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا
يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله
صلى
الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودًا ومواثيق، لا يتقبلوا
من بني هاشم أبدًا صلحًا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.
وفي رواية: ... على ألا ينكحوا إليهم ولا
ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصل
إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم،
ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم تعاهدوا
وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم.
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد
عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاما يقدم من مكة ولا
بيعًا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر
رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأتى فراشه, حتى
يراه من أراد به مكرًا أو غائلة، فإذا نام الناس أخذ أحد بنيه أو إخواته أو بني
عمه, فاضطجع على فراش رسول الله
صلى الله عليه وسلم,
وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها.
واشتد الحصار على الصحابة, وبني هاشم,
وبني المطلب, حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، وحتى أصيبوا بظلف العيش وشدته، إلى حد
أن أحدهم يخرج ليبول فيسمع بقعقعة شيء تحته، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها
فيغسلها، ثم يحرقها ثم يسحقها، ثم يستفها، ويشرب عليها الماء فيتقوى بها ثلاثة
أيام، وحتى لتسمع قريش صوت الصبية يتضاغون من وراء الشِّعب من الجوع.
فلما كان رأس ثلاث سنين، قيض الله سبحانه
وتعالى لنقض الصحيفة أناسًا من أشراف قريش، وكان الذي تولى الانقلاب الداخلي لنقض
الصحيفة هشام بن عمرو الهاشمي، فقصد زهير بن أبي أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة
بنت عبد المطلب, فقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب وتنكح
النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح
إليهم، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما
دعاك إليه منهم, ما أجابك إليه أبدًا, قال: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل
واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من
هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبغنا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: أقد
رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيهم؟ أما
والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعًا قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما
أنا رجل واحد قال: قد وجدت لك ثانيًا: قال من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثًا: قال:
قد فعلت، قال: من؟ قال زهير بن أبي أمية، فقال أبغنا رابعًا، فذهب إلى أبي البختري
بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي، فقال له: ويحك وهل نجد أحد يعين على
ذلك؟ قال: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، فقال: أبغنا خامسًا، فذهب
إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابته وحقهم، فقال له: وهل
على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال نعم، ثم سمى له القوم، فاتَّعدوا خطم
الحجون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في
الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا
إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على
الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع
منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل، وكان في
ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، فقال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب ما رضينا
كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كُتبت فيها، ولا نقر
به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ من الله منها ومما كتب
فيها، وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك؟ فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تُشووِر
فيه في غير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم.
وقام المعطم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها،
فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم)، وروى ابن إسحاق أن الله عز
وجل أرسل على الصحيفة الأرضة فلم تدع فيها اسمًا لله عز وجل إلا أكلته، وبقي فيها الظلم
والقطعية والبهتان وأخبر رسول
الله
صلى الله عليه وسلم بذلك عمه فذهب أبو طالب
إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذبًا فلكم علي أن أدفعه إليكم
تقتلونه، وإن كان صادقًا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق
وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله
صلى
الله عليه وسلم فقال المطعم بن عدي وهشام بن عمرو: نحن براء من هذه الصحيفة
القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالئ أحدًا في فساد أنفسنا وأشرافنا، وتتابع على
ذلك ناس من أشراف قريش فخرجوا من الشِّعب.
دروس وعبر وفوائد:1- إن مشركي بني هاشم وبني المطلب تضامنوا مع
رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحموه كأثر من
أعراف الجاهلية، ومن هنا ومن غيره نأخذ أنه يسع المسلم أن يستفيد من قوانين الكفر
فيما يخدم الدعوة, على أن يكون ذلك مبنيًّا على فتوى صحيحة من أهلها.
2- إن حقوق الإنسان في عصرنا ضمان للمسلم،
والحرية الدينية في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثيرة من أقطار العالم
تعطي للمسلمين فرصًا وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك وغيره من خلال موزانات
دقيقة.
3- من المهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول
الله
صلى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية
للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغل هذه
الحماية من قبل المسلمين كوسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد
لمكائدهم وعدوانهم فأنعم بذلك من جهد مشكور وسبيل ينتبهون إليها.
4- انتصر أبو طالب في غزو المجتمع القرشي
بقصائده الضخمة, التي هزت كيانه هزًّا وتحرك لنقض الصحيفة من ذكرنا من قبل، أولئك
الخمسة الذين يمتون بصلة قرابة أو رحم لبني هاشم, وبني المطلب واستطاعوا أن يرفعوا
هذا الظلامة, وهذا الحيف عن المسلمين وأنصارهم وحلفائهم وخططوا له ونجحوا فيه وفي
هذا الموقف إشارة إلى أن كثيرًا من النفوس, والتي تبدو في ظاهر الأمر من أعمدة
الحكم الجاهلي، قد تملك في أعماقها رفضًا لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة
المناسبة لإزاحته، وعلى أبناء المسلمين أن يهتموا بهذه الشرائح، وينفذوا إلى
أعماقها، وتوضح لهم حقيقة القرآن الكريم, والسنة النبوية الشريفة، وتبين لها طبيعة
العداء بين الإسلام واليهود والصليبيين والعلمانية، فقد يستفاد منهم في خدمة
الإسلام.
5- وظاهرة أبي لهب تستحق الدراسة والعناية؛
لأنها تتكرر في التاريخ الإسلامي، فقد يجد الدعاة من أقرب حلفائهم من يقلب لهم ظهر
المجن، ويبالغ في إيذاء الدعاة، وحربهم أكثر بكثير يلقونه من خصومهم الألداء
الأشداء.
6- كانت تعليمات الرسول
صلى الله عليه وسلم لأفراد المسلمين ألاَّ يواجهوا
العدو، وأن يضبطوا أعصابهم، فلا يشعلوا فتيل المعركة, أو يكونوا وقودها، وإن أعظم
تربية في هذه المرحلة هي صبر أبطال الأرض على هذا الأذى, دون مقاومة. حمزة وعمر،
وأبو بكر وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم، سمعوا وأطاعوا، فلقوا كل هذا الأذى وهذا
الحقد، وهذا الظلم، فكفوا أيديهم، وصبروا ليس على حادثة واحدة فقط، أو يومًا
واحدًا فقط بل ثلاث سنين عجاف, تحترق أعصابهم ولا يسمح لهم برمية سهم أو شجة رأس.
7- أثبتت الأحداث عظمة الصف المؤمن, في
التزامه بأوامر قائده، وبعده عن التصرفات الطائشة، فلم يكن شيء أسهل من اغتيال أبي
جهل، وإشعال معركة غير مدروسة لا يعلم إلا الله مداها، وغير متكافئة.
8- كانت الدعوة الإسلامية تحقق انتصارات
رائعة في الحبشة، وفي نجران، وفي أزد شنوءة، وفي دَوْس، وفي غفار، وكانت تتم في