أولاً: تزكية أرواح الرعيل الأول بأنواع العبادات:
رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على تزكية أرواحهم وأرشدهم
إلى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب من خلال القرآن الكريم ومن أهمها:
1- التدبر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى.
2- التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما
في الكون، بل ما في عالم الغيب والشهادة.
3- عبادة الله عز وجل، من أعظم الوسائل لتربية الروح
وأجلها قدرا، إذ العبادة غاية التذلل لله سبحانه ولا يستحقها إلا الله وحده.
والعبادات التي تسمو بالروح
وتطهر النفس نوعان:
أ- النوع الأول: العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج
وغيرها.
ب- النوع الثاني: العبادات بمعناها الواسع، ويشمل كل شيء يُنْتَوى به
التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فهو عبادة يثاب صاحبها، وتربى روحه تربية حسنة.
إن تزكية الروح بالصلاة
وتلاوة القرآن, وذكر الله تعالى, والتسبيح له سبحانه أمر مهم في الإسلام، فإن
النفس البشرية إذا لم تتطهر من أدرانها وتتصل بخالقها لا تقوم بالتكاليف الشرعية
الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها تعطي الروح وقودًا وزادًا ودفعًا قويًّا
إلى القيام بما تؤمر به.
إن الصلاة تأتي في مقدمة
العبادات التي لها أثر عظيم في تزكية روح المسلم, ولعل من أبرز آثارها التي أصابت
الرعيل الأول.
1-
الاستجابة لأمر الله تعالى وإظهار العبودية له سبحانه: وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين
استجابوا لأمره، فقال عز وجل: ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا
الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) [الشورى: 38].
وكان الرعيل الأول يرى أن
لكل عمل من أعمال الصلاة عبودية خاصة وتأثيرا في النفس وتزكية للروح.
2- مناجاة
العبد ربه: وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا من مشاهد هذه المناجاة قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما
سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا
قال: الرحمن الرحيم: قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين:
قال: مجدني عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين, قال: هذا بيني وبين عبدي
ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
3-
طمأنينة النفس وراحتها: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى,
وقد جُعلت قرة عينه في الصلاة,
وقد علّم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة كثيرًا
من السنن والنوافل ليزدادوا صلة بربهم، وتأمن بها نفوسهم, وتصبح الصلاة سلاحًا
مهما لحل همومهم ومشاكلهم.
4- الصلاة
حاجز عن المعاصي:قال تعالى: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ
مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) [العنكبوت: 45].
كان الصحابة رضي الله عنهم
عندما يؤدون صلاتهم تستريح بها نفوسهم، وتمدهم بقوة دافعة لفعل الخيرات والابتعاد
عن المنكرات، فكانت لهم سياجًا منيعًا حماهم من الوقوع في المعاصي.
ثانيًا: التربية العقلية:
كانت تربية النبيصلى الله عليه وسلم لأصحابه شاملة؛ لأنها مستمدة من القرآن الكريم،
الذي خاطب الإنسان ككل, يتكون من الروح، والجسد، والعقل، فقد اهتمت التربية
النبوية بتربية الصحابي على تنمية قدرته في النظر والتأمل والتفكر والتدبر؛ لأن
ذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى الله، وهذا مطلب قرآني.
ولذلك وضع القرآن الكريم منهجًا لتربية العقل,
سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتربية
أصحابه ومن أهم نقاط هذا المنهج:
1- تجريد العقل من المسلمات المبنية على الظن
والتخمين، أو التبعية والتقليد.
2- إلزام العقل بالتحري والتثبت.
3- دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون.
4- دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع الله.
5- دعوة العقل إلى النظر إلى سنة الله في الناس عبر
التاريخ البشري، ليتعظ الناظر
في تاريخ الآباء والأجداد والأسلاف، ويتأمل في سنن الله في الأمم والشعوب والدول.
ثالثـًا: التربية الجسدية:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه جسديًّا، واستمد
أصول تلك التربية من القرآن الكريم، بحيث يؤدي الجسم وظيفته التي خلق لها من دون
إسراف أو تقتير، ودون محاباة لطاقة من طاقاته على حساب طاقة أخرى.
لذلك ضبط القرآن الكريم
حاجات الجسم البشري على النحو التالي:
1- ضبط حاجته إلى الطعام والشراب.
2- وضبط حاجته إلى الملبس والمأوى، بأن أوجب من اللباس
ما يستر العورة، ويحفظ الجسم من عاديات الحر والبرد، وندب إلى ما يكون زينة عند
الذهاب إلى المسجد.
3- وضبط الحاجة إلى المأوى.
4- وضبط حاجته إلى الزواج والأسرة بإباحة النكاح، بل
إيجابه في بعض الأحيان وتحريم الزنا والمخادنة، واللواط.
5- وضبط حاجته إلى التملك والسيادة، وأباح التملك للمال
والعقار وفق ضوابط شرعية.
6- وضبط الإسلام السيادة بتحريم الظلم والعدوان والبغي.
7- وضبط حاجته إلى العمل والنجاح، بأن جعل من اللازم أن
يكون العمل مشروعًا، وغير ضار بأحد من الناس، ونادى على المسلمين أن يعملوا في هذه
الدنيا ما يكفل لهم القيام بعبء الدعوة والدين، وما يدخرون عند الله سبحانه.
8- وحذر سبحانه من الدعة والبطر، والاغترار بالنعمة.
هذه بعض الأسس التي قامت
عليها التربية النبوية للأجسام، حتى تستطيع أن تتحمل أثقال الجهاد، وهموم الدعوة
وصعوبة الحياة.
رابعًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق، وتنقيتهم من الرذائل:
إن الأخلاق الرفيعة جزء مهم
من العقيدة، فالعقيدة الصحيحة لا تكون بغير خلق وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على مكارم الأخلاق بأساليب
متنوعة.
فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما
من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض
الفاحش البذيء».
وسئل رسول الله عن أكثر ما
يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحسن الخلق»
وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الفم والفرج».
إن الأخلاق ليست شيئًا ثانويًا
في هذا الدين، وليست محصورة في نطاق معين من نطاقات السلوك البشري، إنما هي
الترجمة العملية للاعتقاد والإيمان الصحيح؛ لأن الإيمان ليس مشاعر مكنونة في داخل
الضمير فحسب، إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك، بحيث يحق لنا حين لا نرى ذلك السلوك
العملي, أو حين نرى عكسه، أن نتساءل أين الإيمان إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى
سلوك؟
ولذلك نجد القرآن الكريم
يربط الأخلاق بالعقيدة ربطًا قويًا والأمثلة على ذلك كثيرة.
لقد تربى الصحابة رضي الله
عنهم على أن العبادة نوع من الأخلاق؛ لأنها من باب الوفاء لله، والشكر للنعمة،
والاعتراف بالجميل، والتوقير لمن هو أهل التوقير والتعظيم, وكلها من مكارم الأخلاق،
فكانت أخلاق الصحابة ربانية، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرجاء في الآخرة
وغرضها رضوان الله ومثوبته.
إن الأخلاق في التربية
النبوية شيء شامل يعم كل تصرفات الإنسان وكل أحاسيسه ومشاعره وتفكيره، فالصلاة لها
أخلاق، هي: الخشوع، والكلام له أخلاق, هي: الإعراض عن اللغو، والجنس له أخلاق, هي:
الالتزام بحدود الله وحرماته، والتعامل مع الآخرين له أخلاق, هي: التوسط بين
التقتير والإسراف، والحياة الجماعية لها أخلاق, هي: أن يكون الأمر شورى بين الناس،
والغضب له أخلاق, هي: العفو والصفح، ووقوع العدوان من الأعداء يستتبعه أخلاق, هي:
الانتصار أي رد العدوان، وهكذا لا يوجد شيء واحد في حياة المسلم ليست له أخلاق
تكيفه ولا شيء واحد ليست له دلالة أخلاقية مصاحبة.
إن الله سبحانه وتعالى، قد
جعل التوحيد، أي: إفراد الله بالعبادة على رأس هذا المنهج الخلقي الذي رسمته آيات
سورة الإسراء [38:23] مدحًا وذمًا؛ لأن التوحيد له في الحقيقة جانب أخلاقي أصيل،
إذ الاستجابة إلى ذلك ترجع إلى خلق العدل والإنصاف، والصدق مع النفس، كما أن
الإعراض عن ذلك يرجع في الحقيقة إلى بؤرة سوء الأخلاق في المقام الأول، مثل الكبر
عن قبول الحق، والاستكبار عن اتباع الرسل غرورًا وأنفة، أو الولوع بالمراء, والجدل
بالباطل مغالبة وتطالعًا للظهور، أو تقليدًا وجمودًا على الإلف والعرف مع ضلاله
وبهتانه، وكلها -وأمثالها- أخلاق سوء تهلك أصحابها، وتصدهم عن الحق بعد ما تبين،
وعن سعادة الدارين مع استيقان أنفسهم بأن طريق الرسل هو السبيل إليها.
خامسًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق من خلال القصص القرآني:
إن القصص القرآني غني
بالمواعظ والحكم والأصول العقدية، والتوجيهات الأخلاقية، والأساليب التربوية،
والاعتبار بالأمم والشعوب، والقصص القرآني ليس أمورًا تاريخية لا تفيد إلا
المؤرخين، وإنما هي أعلى وأشرف وأفضل من ذلك؛ فالقصص القرآني مملوء بالتوحيد،
والعلم، ومكارم الأخلاق، والحجج العقلية، والتبصرة والتذكرة، والمحاورات العجيبة.
وأضرب لك مثلاً من قصة يوسف
-عليه السلام- متأملاً في جانب الأخلاق التي عرضت في مشاهدها الرائعة، قال علماء
الأخلاق والحكماء: «لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء
مرشدين هادين، لهم شروط معلومة وأخلاق معهودة، فإن كان القائم بالأعمال نبيًّا فله
أربعون خصلة ذكروها، كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته، وإن كان رئيسًا فاضلاً،
اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها، وسيدنا يوسف -عليه السلام- حاز من كمال
المرسلين وجمال النبيين، ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هديًا
لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال، إذ قد حاز الملك والنبوة، ونحن لا قبل لنا
بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها
اثنتي عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة, لتكون ذكرى لمن يتفكر في
القرآن وتنبيهًا للمتعلمين الساعين للفضائل.
أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:
1- العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية:
( كَذَلِكَ
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ ) [يوسف: 24].
2- الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه ( قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا
لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ) [يوسف: 77].
3- وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: ( وَلَمَّا جَهَّزَهُم
بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ
أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي
بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ) [يوسف: 59، 60] فبداية الآية لين، ونهايتها للشدة.
4- ثقته بنفسه بالاعتماد على ربه: ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى
خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) [يوسف: 55].
5- قوة الذاكرة, ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون،
ليضبط السياسات، ويعرف للناس أعمالهم: ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ
فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) [يوسف: 58].
6- جودة المصَوِّرة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء
تامة الوضوح: ( إِذْ
قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي
سَاجِدِينَ ) [يوسف: 4].
7- استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ
آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ
بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) [يوسف:38] ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ
وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَِ ) [يوسف:101].
8- شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه،
فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: ( يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ
أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) [يوسف: 39] وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما بقوله: ( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا
طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ) [يوسف: 37] والثاني
بقوله: ( إِنِّي
تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ
كَافِرُونَ ) [يوسف:37] وشهدا
له بقولهما:( نَبّئْنَا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [يوسف:36].
9- العفو مع المقدرة: ( قَالَ لاَ تَثْرَيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )
[يوسف: 92].
10- إكرام العشيرة: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا
فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ
أَجْمَعِينَ ) [يوسف: 93].
11- قوة البيان والفصاحة بتعبير رؤيا الملك، واقتداره
على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على
الحكمة والعلم: ( فَلَمَّا
كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ) [يوسف: 54].
12- حسن التدبير ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ
سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا
تَأْكُلُونَ ) [يوسف: 47] تالله، ما أجمل القرآن, وما أبهج العلم.
لا شك أن العلاقة بين القصص
القرآني والأخلاق متينة؛ لأن من أهداف القصص القرآني التذكير بالأخلاق الرفيعة
التي تفيد الفرد، والأسرة، والجماعة والدولة، والأمة، والحضارة، كما أن من أهداف
القصص القرآني التنفير من الأخلاق الذميمة التي تكون سببًا في هلاك الأمم والشعوب.
لقد استخدم المنهاج النبوي
أساليب التأثير والاستجابة, والالتزام في تربيته للصحابة، لكي يحول الخلق من دائرة
النظريات إلى صميم الواقع التنفيذي والعمل التطبيقي سواء كانت اعتقادية، كمراقبة
الله تعالى ورجاء الآخرة، أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر، وصقل
الإرادات، وتزكية النفس. ومع تطور الدعوة الإسلامية ووصولها إلى الدولة أصبحت هناك
حوافز إلزامية تأتي من خارج النفس متمثلة في:
أ-
التشريع:
الذي وضع لحماية القيم
الخلقية, كشرائع الحدود والقصاص, التي تحمي الفرد والمجتمع من رذائل البغي على
الغير: (بالقتل أو السرقة) وانتهاك الأعراض، (بالزنى، والقذف) أو البغي على النفس
وإهدار العقل: (بالخمر، والمسكرات المختلفة).
ب- سلطة
المجتمع:
التي تقوم على أساس ما أوجبه
الله تعالى من الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, والتناصح بين المؤمنين، ومسئولية
بعضهم على بعض، وقد جعل الله تعالى هذه المسئولية قرينة الزكاة، والصلاة، وطاعة
الله ورسوله: ( وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 71].
بل جعلها المقوم الأصلي
لخيرية هذه الأمة: ( كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ
خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) [آل عمران: 110].
وقد ظهرت هذه السلطة وأثرها
في الفترة المدنية.
ج- سلطة
الدولة:
التي وجب قيامها، وأقيمت على
أسس أخلاقية وطيدة، ولزمها أن تقوم على رعاية هذه الأخلاق وبثها في سائر أفرادها
ومؤسساتها، وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته.
وبذلك اجتمع للخلق الإسلامي
أطراف الكمال كلها, وأصبح للمجتمع النبوي نظام واقعي مثالي بسبب الالتزام بالمنهج
الرباني.
هذه بعض الخطوط في البناء العقائدي والروحي
والأخلاقي في الفترة المكية، ولقد آتت هذه التربية أكُلها فقد كان ما ينوف على
العشرين من الصحابة الكرام الخمسين الأوائل السابقين إلى الإسلام مارسوا مسؤوليات
قيادية بعد توسع الدعوة وانطلاقها في عهد النبي صلى الله
عليه وسلم وبعد وفاته وأصبحوا القادة الكبار للأمة، وعشرون آخرون منهم
معظمهم استشهدوا أو ماتوا على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فكان في الرعيل الأول أعظم شخصيات الأمة على الإطلاق، كان فيه
تسعة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنهم نماذج ساهمت في صناعة
الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة، كعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وأبي ذر،
وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم رضي الله عنهم، وكان من هذا الرعيل أعظم نساء الأمة
خديجة رضي الله عنها، ونماذج عالية أخرى، مثل أم الفضل بنت الحارث، وأسماء ذات
النطاقين، وأسماء بنت عميس، وغيرهن.
لقد أتيح للرعيل الأول أكبر
قدر من التربية العقدية والروحية، والعقلية والأخلاقية.. على يد مربي البشرية
الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم, فكانوا هم حداة
الركب، وهداة الأمة,
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكيهم
ويربيهم وينقيهم من أوضار الجاهلية، فإذا كان السعيد الذي فاز بفضل الصحبة من رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة في
حياته وآمن به، فكيف بمن كان الرفيق اليومي له، ويتلقى منه، ويتعبق من نوره،
ويتغذى من كلامه ويتربى على عينه.
* * *