بعد الإعداد العظيم الذي قام
به النبي صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه,
وبناء الجماعة المسلمة المنظمة الأولى على أسس عقدية, وتعبدية وخلقية رفيعة المستوى,
حان موعد إعلان الدعوة بنزول قول الله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الأقْرَبِينَ` وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
[الشعراء: 214، 215].
فجمع
قبيلته صلى الله عليه وسلم وعشيرته, ودعاهم
علانية إلى الإيمان بإله واحد، وخوَّفهم من العذاب الشديد إن عصوه، وأمرهم بإنقاذ
أنفسهم من النار، وبين لهم مسؤولية كل إنسان عن نفسه.
عن ابن عباس قال: لما نزلت ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) صعد
النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» لبطون قريش – حتى اجتمعوا،
فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش،
فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن
تغير عليكم أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: «فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًّا
لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت ( تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ . وفي رواية- ناداهم بطنًا بطنًا، ويقول لكل بطن: «أنقذوا أنفسكم من النار....» ثم قال: «يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا
غير أن لكم رحما سأبُلها ببلالها».
كان القرشيون واقعيين
عمليين، فلما رأوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو
الصادق الأمين، قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم ما يرون إلا
ما هو أمامهم، فهداهم إنصافهم وذكاؤهم إلى تصديقه، فقالوا: نعم.
ولما تمت هذه المرحلية
الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين, قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وكان ذلك تعريفًا
بمقام النبوة، وما ينفرد به من علم بالحقائق الغيبية والعلوم الوهبية، وموعظة
وإنذارًا، في حكمة وبلاغة، لا نظير لهما في تاريخ الديانات والنبوات، فلم تكن طريق
أقصر من هذا الطريق، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب، فسكت القوم
ولكن أبا لهب قال: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟.. وبهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع للأمة أسس الإعلام, فقد
اختار مكانًا عاليًا وهو الجبل ليقف عليه, وينادي على جميع الناس فيصل صوته إلى
الجميع، وهذا ما تفعله محطات الإرسال في عصرنا الحديث, لتزيد من عمليات الانتشار
الإذاعي، ثم اختار لدعوته الأساس المتين ليبني عليه كلامه وهو الصدق؛ وبهذا يكون صلى الله عليه وسلم قد علم رجال الإعلام والدعوة أن
الاتصال بالناس بهدف إعلامهم أو دعوتهم، يجب أن يعتمد وبصفة أساسية على الثقة
التامة بين المرسل والمستقبل, أو بين مصدر الرسالة والجمهور الذي يتلقى الرسالة،
كما أن المضمون أو المحتوى يجب أن يكون صادقا لا كذب فيه.
«ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول
صلى الله عليه وسلم دعوته العلنية بإنذار عشيرته
الأقربين، إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة, قد يعين
على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر
خاص, لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون
له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في
أدوارها الأولى محدودة بقريش؛ لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن الكريم اتخذ الدعوة
في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية»
فقد جاءت الآيات المكية تبين عالمية الدعوة، قال تعالى: ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) [الفرقان: 1].
وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء: 107]. وقال
تعالى: ( وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [سبأ: 28].
ثم جاءت مرحلة أخرى بعدها،
فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم ويتبع الناس
في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حر
وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير,
حين نزول قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ` إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ` الَّذِينَ
يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ` وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ) [الحجر: 94-97].
كانت النتيجة لهذا الصدع هي
الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، وقد اشتد
الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه, وبين
شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان،
وكان هذا في حد ذاته مكسبًا عظيمًا للدعوة، ساهم فيه أشد وألد أعدائها, ممن كان
يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يسلمون بدعاوي زعماء الكفر
والشرك.
كانت الوسيلة الإعلامية في
ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هذا الحدث العظيم حديث الناس
في المجالس ونوادي القبائل، وفي بيوت الناس.
أهم اعتراضات المشركين:
كانت أهم اعتراضات زعماء
الشرك موجهة نحو وحدانية الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من
رب العالمين.
وفيما يلي
تفصيل لهذه الاعتراضات والرد عليها:
أولاً: اعتراضهم على الوحدانية:
لم يكن كفار مكة ينكرون بأن
الله خلقهم وخلق كل شيء: قال تعالى: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ ) [لقمان: 25]. لكنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تقربهم
إلى الله، قال تعالى: ( أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) [الزمر: 3].
وقد انتقلت عبادة الأصنام
إليهم من الأمم المجاورة لهم، ولهذا قابلوا الدعوة إلى التوحيد بأعظم إنكار وأشد
استغراب
قال تعالى: ( وَعَجِبُوا
أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ` أَجَعَلَ
الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ` وَانطَلَقَ
الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا
لَشَيْءٌ يُرَادُ` مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ
اخْتِلاَقٌ ) [ص: 4-7].
ولم يكن تصورهم لله تعالى
ولعلاقته بخلقه صحيحًا، إذ كانوا يزعمون أن لله تعالى صاحبة من الجن، وأنها ولدت الملائكة،
وأن الملائكة بنات الله –تعالى الله عما يقولون
علوًّا كبيرًا.
فكانت الآيات تنزل مبيِّنة
أن الله عز وجل خلق الجن والملائكة كما خلق الإنس، وأنه لم يتخذ ولدًا، ولم تكن له
صاحبة, قال تعالى: ( وَجَعَلُوا
للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ
عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ` بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ
صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنعام: 100-101].
ومبينةٌ أن الجن يقرون لله
بالعبودية، وينكرون أن يكون بينهم وبينه علاقة نسب: ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ ) [الصافات: 158].
ومطالبةً المشركين باتباع
الحق وعدم القول بالظنون والأوهام: ( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ
لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى` وَمَا
لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) [النجم: 27-28].
وموضحةً أنه لا يعقل أن يمنح
الله المشركين البنين، ويكون له بنات، وهن أدنى قيمة في رأيهم من البنين: ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ
بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ
قَوْلاً عَظِيمًا ) [الإسراء: 40].
ومحملةً المشركين مسئولية
أقوالهم التي لا تقوم على دليل: ( وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ
الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ
وَيُسْأَلُونَ ) [الزخرف: 19].
ثانيًا: كفرهم بالآخرة:
أما دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان باليوم الآخر، فقد
قابلها المشركون بالسخرية والتكذيب: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى
رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ` أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ ) [سبأ: 7-8] فقد
كانوا ينكرون بعث الموتى: ( وَقَالُوا
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ )
[الأنعام: 29].
ويقسمون على ذلك بالأيمان
المغلظة. ( وَأَقْسَمُوا
بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا
عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ` لِيُبَيِّنَ
لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ
كَانُوا كَاذِبِينَ ) [النحل: 38، 39] وكانوا
يظنون أنه لا توجد حياة في غير الدنيا, ويطلبون إحياء آبائهم ليصدقوا بالآخرة: قال
تعالى: ( وَقَالُوا
مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا
إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ` وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن
قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ` قُلِ
اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ` وَللهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ ) [الجاثية: 24-27].
وفاتهم أن الذي خلقهم أول
مرة قادر على أن يحييهم يوم القيامة, قال مجاهد وغيره: جاء أُبي بن خلف
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم
رميم، وهو يفتته ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال
صلى الله عليه وسلم: «نعم
يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» ونزلت هذه الآيات
( أَوَ
لَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ
مُّبِينٌ` وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ` قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [يس: 77-79].
كانت أساليب القرآن الكريم في إقناع الناس
بالبعث اعتمدت على خطاب العقل، والانسجام مع الفطرة، والتجاوب مع القلوب، فقد ذكَّر
الله عباده أن حكمته تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، فإن الله خلق الخلق
لعبادته، وأرسل الرسل, وأنزل الكتب, لبيان الطريق الذي به يعبدونه ويطيعونه
ويتبعون أمره ويجتنبون نهيه، فمن العباد من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى،
أفليس بعد أن يموت الطالح والصالح, ولا بد أن يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء
بإساءته, قال تعالى: ( أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ` مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ`أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ`إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ) [القلم:35-38] إن الملاحدة
الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يظنون الكون خلق عبثًا وباطلاً لا لحكمة، وأنه لا فرق
بين مصير المؤمن المصلح والكافر المفسد، ولا بين التقي والفاجر،
قال تعالى ( وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ` أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ )[ص: 27، 28].
وضرب القرآن الكريم للناس
الأمثلة في إحياء الأرض بالنبات, وإن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إعادة
الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية ( فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ
رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ
الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الروم: 50].
وذكر الله سبحانه وتعالى في
كتابه إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، فأخبر الناس في كتابه عن أصحاب
الكهف, بأنه ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين, ثم قاموا من رقدتهم بعد
تلك الأزمان المتطاولة, قال تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ
أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) [الكهف: 12]. ( وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ
لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُوا
لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا
لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) [الكهف: 19]. ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ
ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) [الكهف: 25] وغير
ذلك من الأدلة والبراهين التي استخدمها رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مناظراته مع زعماء الكفر والشرك.
ثالثـًا: اعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اعترضوا على شخص الرسول صلى الله عليه
وسلم، فقد كانوا يتصورون أن الرسول لا يكون بشرا مثلهم، وأنه ينبغي أن يكون
ملكا، أو مصحوبا بالملائكة: ( وَمَا مَنَعَ
النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ
اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) [الإسراء: 94] ( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ
أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ ) [الأنعام:8] ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا
لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ )
[الأنعام:9] أي لو بعثنا إلى البشر
رسولاً من الملائكة لكان على هيئة الرجل يمكنهم مخاطبته والأخذ عنه، ولو كان كذلك
لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشر وكانوا يريدون رسولاً لا يحتاج إلى طعام وسعى في الأسواق: ( وَقَالُوا مَا
لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا`أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ
أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن
تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ) [الفرقان:
7، 8] وكأنهم لم يسمعوا بأن الرسل جميعًا
كانوا يأكلون ويسعون ويعملون ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) [الفرقان: 20].
ويريدون أن يكون الرسول كثير
المال كبيرًا في أعينهم: ( وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ
هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) [الزخرف: 31]. يريدون
الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
ونسبوا الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى الجنون: ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ` لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) [الحجر: 6،7] ( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى
وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ` ثُمَّ
تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) [الدخان:
13، 14]
ورد الله عليهم بقوله: ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) [القلم: 2]
كما نسبوه إلى الكهانة
والشعر: ( فَذَكِّرْ
فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ` أَمْ
يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) [الطور: 29، 30].
كما أنهم كانوا يعلمون أنه
لا ينظم الشعر، وأنه راجح العقل، وأن ما يقوله بعيد عن سجع الكهان وقول السحرة.
ونسبوه صلى الله عليه وسلم إلى السحر والكذب: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم
مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) [ص: 4]. ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ
الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا` انْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) [الإسراء: 47، 48]، وكانت الآيات تتنزل على رسول الله صلى
الله عليه وسلم تفند مزاعم المشركين، وتبين له أن الرسل السابقين استهزئ
بهم، وأن العذاب عاقبة المستهزئين: ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) [الأنعام: 10] وتعلمه
أن المشركين لا يكذبون شخصه، ولكنهم يكذبون رسالته، ويدفعون آيات الله بتلك
الأقاويل:
( قَدْ
نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ
وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام: 33].
رابعًا: موقفهم من القرآن الكريم:
كذلك لم يصدقوا أن القرآن
الكريم منزل من الله واعتبروه ضربًا من الشعر الذي كان ينظمه الشعراء، مع أن كل من
قارن بين القرآن وبين أشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ
الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ` لِيُنْذِرَ
مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [يس: 69، 70]
وكيف يكون القرآن شعرًا وقد نزل فيه ذم للشعراء الذين يضلون الناس, ويقولون خلاف
الحقيقة.
( وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ` أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ` وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ) [الشعراء: 224 -226].
فهو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وليس شبيهًا بقول الشعراء، ولا بقول
الكهان: ( إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ` وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ` وَلاَ
بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ` تَنزِيلٌ
مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) [الحاقة: 40-43].
وقد أدرك الشعراء قبل غيرهم
أن القرآن الكريم ليس شعرًا
ومن فرط تكذيبهم وعنادهم قالوا: إن محمدًا يتعلم القرآن من رجل أعجمي
كان غلامًا لبعض بطون قريش، وكان بياعًا يبيع عند الصفا، وربما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك
كان أعجمي اللسان لا يعرف من العربية إلا اليسير، بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا
بد منه، ولهذا قال تعالى ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا
يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا
لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) [النحل: 103].
أي فكيف يتعلم من جاء بهذا
القرآن من فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له
أدنى مسكة من العقل.
واعترضوا على طريقة نزول
القرآن، فطلبوا أن ينزل جملة واحدة، مع أن نزوله مفرقًا أدعى لتثبيت قلوب المؤمنين
به وتيسير فهمه وحفظه وامتثاله: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) [الفرقان: 32].
فلما اعترض المشركون على
القرآن, وعلى من أنزل عليه بهذه الاعتراضات
تحداهم الله بأن يأتوا بمثله، وأعلن عن عجز الإنس والجن مجتمعين عن ذلك: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ
الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [الإسراء: 88].
بل هم عاجزون عن أن يأتوا
بعشر سور مثله: ( أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ` فَإِن
لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن
لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ) [هود: 13، 14].
وحتى السورة الواحدة هم
عاجزون عنها: ( وَمَا
كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُّفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ` أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [يونس: 37-38].
فعجزهم مع أن الفصاحة كانت
من سجاياهم، وكانت أشعارهم ومعلقاتهم في قمة البيان دليل على أن القرآن كلام الله
الذي لا يشبهه شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، وكلامه لا يشبه
كلام المخلوقين.
* * *
ســـنة الابتــــــلاء
الابتلاء - بصفة عامة- سنة
الله في خلقه, وهذا واضح في تقريرات القرآن الكريم, قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ
خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ
فِيمَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [الأنعام: 165] وقال
سبحانه: ( إِنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ
عَمَلاً ) [الكهف: 7] وقال جل شأنه: ( إِنَّا خَلَقْنَا
الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا
بَصِيرًا ) [الإنسان: 2].
الابتلاء مرتبط بالتمكين
ارتباطا وثيقا، فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يُمكِّن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل
الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث
من الطيب, وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف, فقد شاء الله تعالى أن
يبتلي المؤمنين ويختبرهم، ليمحص إيمانهم ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك،
ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشافعي t حين سأله رجل: أيهما أفضل للمرء، أن يُمكن أو يبتلى؟ فقال
الإمام الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله تعالى ابتلى نوحًا وإبراهيم، وموسى
وعيسى، ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم, فلا يظن أحد أن
يخلص من الألم البتة.
حكمة الابتلاء وفوائده:
للابتلاء
حكم كثيرة من أهمها:
1- تصفية الصفوف:
جعل الله الابتلاء وسيلة
لتصفية نفوس الناس، ومعرفة المحق منهم والمبطل؛ وذلك لأن المرء قد لا يُكشف في
الرخاء، لكنه تكشفه الشدة، قال تعالى: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) [العنكبوت: 2].
2- تربية الجماعة المسلمة:
وفي هذا يقول سيد قطب رحمه
الله: «ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة, التي تحمل هذه الدعوة
وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة
والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف, والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس
وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا، فهؤلاء هم الذين
يصلحون لحملها, إذن بالصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون».
3- الكشف عن خبايا النفوس:
وفي هذا المعنى يقول صاحب
الظلال: «والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم
الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر, فيحاسب الناس إذن على ما يقع من
عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من
جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدًا إلا بما استعلن من أمره وبما حققه
فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه».
4- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة:
وفي هذا المعنى يقول صاحب
الظلال: «وما بالله – حاشا لله – أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة،
ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا
بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات, وإلا بالصبر
الحقيقي على الآلام, وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله وثوابه على الرغم من طول
الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد, فتنفي عنها الخبث وتستجيش كامن
قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل، وكذلك
تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدًا إلا أصلبها عودًا وأقواها طبيعة، وأشدها
اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين
يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار».
5- معرفة حقيقة النفس:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وذلك لكي يعرف أصحاب
الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا
حقيقة النفس البشرية وخباياها، حقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع
مبادئ دعوتهم مع الشهوات في أنفسهم، وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى
هذه النفوس، ومزالق الطريق ومسارب الضلال».
6- معرفة قدر الدعوة:
وفي هذا المعنى يقول صاحب
الظلال: «وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم، وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من غث
وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغالٍ، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك مهما
كانت الأحوال».
7- الدعاية لها:
فصبر المؤمنين على الابتلاء
دعوة صامتة لهذا الدين وهي التي تدخل الناس في دين الله، ولو وهنوا أو استكانوا
لما استجاب لهم أحد، لقد كان الفرد الواحد يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ثم يأتيه أمر النبي صلى
الله عليه وسلم أن يمضي إلى قومه يدعوهم، ويصبر على تكذيبهم وأذاهم، ويتابع طريقه حتى يعود
بقومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسنرى ذلك في الصفحات القادمة إن شاء الله.