عندما تسمع عنها يخيل إليك أنها أتت من زمان غير زماننا، أو أن عاطفة الأمومة نُزعت من قلبها، وغُرس بدلا منها حب المقاومة والوطن، كيف بها تطلب من ابنها إيواء مطارَدين لجيش الاحتلال في بيتها رغم معرفتها أنها يمكن أن تفقد أولادها الستة لهذا السبب؟ وكيف تدفع بابنها "محمد" ليتسابق في نيل شرف مقاومة جيش الاحتلال، وتوصيه بالثبات حتى يلقى ربه شهيدا؟!
أثارت هذه التساؤلات فضولنا، فاتجهنا إلى أحد أحياء مدينة غزة وهو حي الشجاعية وبالتحديد منطقة التركمان "نسبة إلى تركمان الشجاع أحد قادة الحملة العثمانية". وفي بيت لفه التواضع وعلى ما يبدو لم ينته أهله من بنائه، استأْذَنَّا ودخلنا وانتظرنا في ساحة المنزل تحت شجرة التين وبجوارنا على الشمال كانت شجرة ليمون، وذلك حتى يُسمح لنا بلقاء والدة الشهيد محمد فرحات التي لم تفارقها النسوة، وعندما دخلنا المنزل من الداخل احتار أهله أين نجلس؟ فقد أخلوا المنزل من كل أثاثه؛ لأنهم كانوا يتوقعون أن تقوم قوات الاحتلال بالتوغل في الحي بهدف هدم المنزل، كان ذلك ظهر اليوم الثاني من استشهاده السبت 9-3-2002 التقينا بالفعل مع السيدة "أم نضال فرحات" والدة الشهيد "محمد" والمطارَد "نضال" والمعتقل "وسام" -رغم المرض الذي ألمّ بها- لتضرب لنا أروع مثل في صور جهاد المرأة الفلسطينية التي تدفع أولادها ثمنا لتحرير الوطن.
وداع الحبيب
استقبلتنا "أم نضال" في غرفة الجلوس التي أفرغت من كافة محتوياتها استعدادا للقصف على يد جيش الاحتلال؛ انتقاما من قبل قوات الاحتلال بسبب حجم الخسائر التي حلت بهم من العملية البطولية التي نفذها ابنها محمد -ابن التسعة عشر ربيعا- في مستوطنة غوش قطيف في يوم 7-3-2002، وفي تمام الساعة الحادية عشرة والربع مساء، وهي العملية التي أدت إلى مقتل أحد عشر جنديا إسرائيليا وإصابة أكثر من سبعة عشر آخرين بجراح.
وفي لحظة دخولنا للمنزل كانت السيدة -أم نضال في العقد الخامس من العمر ويبدو عليها أنها نالت قسطا لا بأس به من العلم- تتابع مع زائراتها مشاهد وداعها ابنها محمد على شاشة التلفاز، حيث كانت تحضنه وتقبله بحنان قبل أن يفارقها وهي تعلم علم اليقين أنه لن يعود إليها وسيغيب عنها إلى الأبد. خيّم الهدوء على الجميع وكأن على رؤوسهن الطير، يحاولن أن يمسحن دموعهن التي كانت تذرف على استحياء وخجل من أم نضال التي كانت تبدو أكثر صبرا وجلدا منهن، حتى إنها كانت تبتسم وهي تواسي من جاء لمواساتها.
قاوم ولا تفزع
لقد سجلت فرحات أروع الصور لجهاد المرأة الفلسطينية، وضربت مثلا بدفعها ابنها محمد للمشاركة في اقتحام مستوطنة صهيونية وقتل العشرات من مستوطنيها رغم صغر سنه، بعد أن نمّت الجرأة في قلبه وهي تقول له: "أريدك أن تقاتل بالسلاح لا بالحجر"؛ لذلك سرعان ما فكر في البحث عن عمل ليدخر منه ثمن السلاح الذي لا تستطيع هذه الأسرة أن توفره لولدها. حثته أمه على العمل والكد حتى يستطيع أن يمتلك السلاح، ويحافظ عليه لأنه عرف مدى صعوبة الحصول عليه. وتضيف أم نضال: "كان من أجمل أيام حياتي عندما امتلك محمد السلاح فأحضره لي ليسعد قلبي به، ويؤكد لي أنه أصبح رجلا يمكن أن يسير في طريق الجهاد".
ليس ذلك فحسب، يا لها من امرأة صلبة قوية ملكت زمام الأمور وجوامع الكلم، عندما سألناها ألم تترددي ولو قليلا؟ ابتسمت وقالت: كيف أمنع الخير عن ابني؟ لقد علمته من البداية أن يكون صادقا معي ولا يخفى عني سر جهاده حتى أشجعه وأقويه، ومع حلول شهر رمضان بشرني بالتحاقه بكتائب القسام وأنه يستعد لخوض عملية استشهادية قريبا.
وتضيف بقلب صابر محتسب: "لا أنكر أني جزعت في البداية لأنني أيقنت أني أعد الأيام الأخيرة لولدي الحبيب، ولكن ما كان يزيد من فزعي أن يفشل في المعركة أو أن يتم القبض عليه قبل أن ينفذها كما حدث مع أخيه وسام الذي اعتقل قبل عشر سنوات، عندما كان يسعى لتنفيذ عملية استشهادية في مدينة بئر السبع عام 1993 فدعوت الله أن يقبله عنده شهيدا بعد أن يشفي صدور قوم مؤمنين".
لا تصدق دموعي
وتضيف: ورغم ذلك نجحت بإيمان وعزيمة في كبح جماح مشاعر الأمومة بداخلي فمن أراد طريق الله والفوز بالجنان فلا بد أن يدفع أغلى ما يملك، وابني محمد أغلى ما أملكه، ولن أبخل به.
وتصف فرحات الساعات الأخيرة قبل استشهاد ولدها فقالت: أخبرني بأن موعد تنفيذ العملية قد تحدد حتى لا أجزع عند سماع خبر استشهاده، ولم أستطع عندها أن أتمالك دموعي، وغلبتني عاطفة الأمومة، وبكيت أمامه، ولكني قلت له: إياك أن تصدق دموعي فإنها دموع أمّ تزف ابنها إلى الحور العين فأطع ربك، وجاهد، واثبت حتى تلقى ربك. ودعته وخرج إلى جنوب غزة بعد أن ودّع جميع إخوانه وقلبي يدعو له بالسداد وكان هذا آخر عهدنا به.
وتضيف بنبرة حزينة: وبدأت أخوض الامتحان الحقيقي الذي هو صراع بين المبادئ وعاطفة الأمومة، ست ساعات كأنها دهر طويل أعد خلالها أنفاس أحبِ أبنائي إلى قلبي كأمٍّ تشاهد الموت البطيء لابنها، وقلبي يخفق حتى أوشك على التوقف لشدة خوفي أن يتم القبض عليه، وأخذت أدعو الله أن ينعم عليه بالشهادة ويسدد رميته، وجاء فرج الله بخبر نجاح العملية وفوزه بالجنان فهنأت نفسي وتنفست الصعداء.
بيت الحمائم
لم تبدأ فصول مقارعة السيدة فرحات للعدو الصهيوني بدفع ابنها "محمد" للجهاد، بل في عام 1992 حيث آوت في بيتها المتواضع المناضل الذي وصفه اليهود "بذي الأرواح السبعة".. إنه "عماد عقل" قائد الجناح العسكري لحركة "حماس" الذي قال عبارته المشهورة: "إن قتل اليهود عبادة أتقرب بها إلى الله" والذي استشهد في منزلها بتاريخ 24-2-1993 بعد أن تحول إلى جبهة حرب بينه وبين ما يزيد عن مائتي جندي صهيوني قبل اقتحامهم المنزل واستشهاد عقل.
قالت: "كنت كثيرا ما أسمع عن وضع الشباب المطارَدين من قبل جيش الاحتلال، وكيف لا يشعرون بالأمن في بيوت مستضيفيهم؛ فصممت أن أفوز بشرف إيوائهم فاقترحت على ابني الأكبر نضال أن نحفر خندقا خلف المنزل، تحت حظيرة الحمام ليصبح مأوى للشباب المطاردين، وفعلا لاقت هذه الفكرة ترحيبا من زوجي وابني فأعددنا الخندق، وعرضت الأمر على شباب المقاومة الذين كان يعرفهم ليكرمنا الله بشرف خدمة المجاهد عماد عقل.
تؤكد أم نضال: "كنت أشعر بقمة السعادة وأنا أشرف على خدمة عقل، وأتمنى أن يمكث أكبر قدر من الوقت في المنزل، ولكن في بعض اللحظات كنت أشعر بالقلق؛ لأن وجوده في المنزل يشكل خطرا كبيرا على أبنائي ففي أي لحظة يمكن أن يتعرض المنزل للاقتحام وبالتالي ربما أفقد أبنائي الستة، وكنت سرعان ما أهذب نفسي وأنهرها، فإن كان عقل حمل روحه على كفه ليقاوم جيش الاحتلال ويصرعهم ويشكل بؤرة خطر على أعدائه فنحن كذلك على استعداد أن نضحي بأرواحنا من أجل أن نحميه ونحمي وطننا".
أولادي فداء للوطن
وكثيرا ما تعرض منزلها للاقتحام من قبل جيش الاحتلال وعماد مختبئ به حيث كان ينفذ عمليات المقاومة ثم يعود إليها بملابسه وعليها دماء الجنود، حيث ينجو بنفسه من دوامة الاعتقال في الخندق الذي أُعدَّ له بعد أن تهيئ له الطريق. وحول هذا تقول: "في يوم عاد عماد من عمليته البطولية في حي الزيتون وقد اتسخ بنطاله بدم أحد الجنود وما كاد يخلعه لأغسله حتى حاصر جيش الاحتلال المنزل فخرجت أجري إلى عماد ليهرب من باب المطبخ إلى الخندق الخلفي وعدت إلى الغرفة لتفقدها فربما نسي سلاحه أو بعض الرصاص، فتدور الشبهات حول المنزل، وفعلا فقد نسي عماد مع السرعة سلاحه الشخصي على الأرض وبعض الرصاصات"، تابعت فرحات بصوت يحن إلى تلك الأيام: "ولا أدري كيف نجا جميع أولادي في ذلك اليوم من موت محقق؟".
وليس غريبا على مثل هذه الأم أن تتمنى أن يرزق الله جميع أولادها الشهادة وحب الاستشهاد ليسيروا على درب عقل، لتختم قولها: "من يحب الله والوطن فلا يتوانى عن تقديم أبنائه فداء له، والأم التي تحب ولدها تطلب له النجاة في الدنيا والآخرة وتدفعه للجهاد ولا تجزع عند فوزه بها، ولا تشمت الأعداء بشعبنا بدموعها على شاشات التلفزة".