القرآن كتاب الله المكرم وكلمة المعظم، وفضله على سائر الكلام كفضل
الله على سائر خلقه، وقد ختم الله به الرسالات، وجعله مهيمنا على كل ما
سبقه من الكتب {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}..
(المائدة:48).
ولهذا الكلام سلطان عجيب على قلوب سامعيه، وهيمنة
إعجازية على عقولهم ونفوسهم، هذه الهيمنة وهذا السلطان يحمل غير المؤمنين
على النطق في القرآن بقولة الحق، خضوعا لبلاغته وإذعانا لفصاحته، واعترافا
منهم بأنه ليس ككلام البشر ولا يشبه كلام البشر..
ومن هذا الباب قول
الوليد بن المغيرة وهو أحد فصحاب العرب وبلغاء الدنيا: (والله لقد سمعت من
محمد آنفا كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة،
وان عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى).
ومنه
قول عتبة بن ربيعة أيضا لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم أول سورة
فصلت: (والله لقد سمعت كلاماً من محمد ما سمعت مثله قط، والله ما هو
بالشعر ولا بالكهانة، فأطيعوني في هذه وأنزلوها بي؛ خلُّوا محمداً وشأنه
واعتزلوه، فوالله ليكونن لما سمعت من كلامه نبأ).
والأمر كما قال الله تبارك وتعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}.. (هود: 2).
وهذا
الكتاب العظيم هو باب الهداية الأعظم، وطريق النجاة الأقوم، ففيه الهداية
من الضلال، والبصيرة من العمى، والنور الذي يكشف الظلمات.. فهو لأهل
الإيمان هدى يهدي قلوبهم وينير طريقهم ليسيروا فيه على بصيرة {ذَلِكَ
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.. (البقرة:2).
وهو
لطالبي الحق نور يزيح ظلام الباطل وضلاله، ويأخذ بيد المسترشد إلى نور
الهدى وفيئه وظلاله. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ
السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.. (المائدة:15،16).
لقد
أحاط هذا الكتاب بأسباب الهداية وأنوار الإيمان، وأخذ بمجامع السبل
وأقومها في كل ما دعا إليه من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات كما قال
سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}..
(الإسراء:9).
وأثر القرآن في هداية الناس ودوره في دعوتهم إلى الله
ورسوله والإسلام معلوم لا ينكر، فكان مجرد سماعه سببا في إيمان خلق كثير،
واذكر عمر بن الخطاب حين سمع فواتح سورة طه فحولت وجهة قلبه ومجرى حياته،
وكم غيْر عمر حدث معه مثل ما حدث مع عمر .. حتى لقد امتد هذا الأثر للجن
فدخلوا بالقرآن دين الرحمن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً،
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا
أَحَداً}.. (الجن:1،2).
وفي زماننا هذا مازال سلطان القرآن ممتدا
يحدو بسامعيه إلى رحاب الإيمان وطريق السعادة.. يذكر الأستاذ الداعية عبد
الرحمن السميط أن رجلا أسلم من إفريقيا لأنه كان يسمع في الإذاعة القرءان
الكريم، وبالطبع لم يكن يفهم العربية، ولكنه كان يحس بالأنس والراحة
النفسية عندما يسمعه، وظل فترة كبيرة يستمع، ثم لما التقى بالأستاذ في أحد
زياراته لإفريقيا أعلن إسلامه وتعلم دين الله هو وأسرته.
ما أصدق ما قال الشاعر: (فَكِدنا جَميعًا مِنْ حَلاوَةِ لَفظِهِ .. ... .. نُجَنُّ وَلَم نَسْطِعْ لِمَنْطِقِهِ صَبْرًا)
والترجمة أيضا
ولم يقف إعجاز القرآن في هداية الخلق على لقطه بل انتقل
الأمر إلى ترجمة معانيه لتقود من لا يحسنون العربية إلى نفس الطريق الذي
يقود إليه الأصل، وإن لم تكن هي كالأصل، ولكنها بركة كلام الله وعظمة
كتابه التي أخذت بلباب عقول الكثيرين إلى دين الإسلام.
كما ذكر
الشيخ جعفر إدريس وهو الذي عاش في أمريكا ردحا من الزمن يقول حفظه الله:
إننا وجدنا بالتجربة، ووجد بعض إخواننا بالدراسة العلمية أن أكثر ما يدخل
الناس في دين الله هو قراءتهم لترجمة هذا الكتاب العزيز. ولو رحت أحدثكم
عما سمعت أنا وحدي عن مشاعر الرضى والطمأنينة واليقين لبعض من هداهم الله
تعالى بالاطلاع على ترجمة تنزيل رب العالمين لطال الحديث.
لكنني سأكتفي ببعض ذلك عسى أن تكون فيه لنا ذكرى، وزيادة إيمان
ويقين. فهذا شاب هو الآن في صحبتنا يحدثنا أنه قرأ كتابا لمؤلف غير مسلم
عن الأديان في العالم، وكان مما قرأ عن الإسلام ترجمة لسورة الفاتحة. يقول
الشاب إنني كثيرا ما كنت أتأثر تأثرا فكريا ببعض ما أقرأ، لكنني حين قرأت
ترجمة هذه السورة شعرت بالتأثير في قلبي. ذهب الشاب يبحث عن المسلمين،
فأسلم ثم انتقل من بلده إلى واشنطن ليلتحق بمعهد العلوم العربية
والإسلامية ليدرس اللغة العربية، وليتعلم دينه.
ومن
قبله فتاة قالت إنها لأبوين لا اهتمام لهما بالدين، لكنها عثرت في بيتها
على كتاب ديني قديم أثار اهتمامها فبدأت تبحث عن الأديان، فكان مما قرأته
شيئا عن الإسلام. قالت – وهي تسكن في مدينة نائية أشبه بالقرية إنها
صحبت بعض زميلاتها في الذهاب إلى سوق خارج القرية، لم تصحبهن إلا لتبحث عن
ترجمة للقرآن الكريم. عثرت على طُلبتها، ثم بدأت تقرأ. تقول الفتاة إنها
لم تتجاوز الآية الثانية من سورة البقرة {ذلك الكتاب لا ريب فيه} حتى وضعت
المصحف المترجم، وشهدت بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ثم ذهبت
تسأل عن المسلمين. ثم جاءت لواشنطن لإكمال دراستها بجامعة جورج واشنطن وهي
محجبة حجاباً كاملاً!
ومن قبلها شاب لأبوين كاثوليكيين كان يدرس
الثانوية بمدرسة كاثوليكية، وكان مع ذلك يشهد دروساً دينية خاصة. لكن عقله
لم يقبل أبدا القول بأن لله ولدا. لذلك قرر أن يبحث عن دين آخر. فكر في
اليهودية لكنه لم يقتنع بها. ثم دخل الجامعة، وكان مما درسه مقرراً في
التاريخ شمل الشرق الأوسط، وكان من ضمن ما ذكر لهم المحاضر من المراجع
القرآن الكريم. يقول إنه لم يكن قبل ذلك يظن أن هنالك دينا يزعم أنه سماوي
إلا اليهودية والنصرانيةً! ولم يكن يعرف شيئا عن الإسلام البتة. لكنه
عندما بدأ يقرأ في الترجمة اهتدى.
إن هذا الكتاب هو حقا كلام الله
تعالى يميل كل قلب مهتد إلى ما يناسب حاله منه. فما علينا نحن إلا أن
نوفره لكل من نقدر أن نوصله إليهم ليتناولوا منه ما يشتهون فيهتدون.
وصدق
الله العظيم: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ،
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}... (المائدة:15،16).