بَابُ زَكَـاةِ الفِطْـرِ
إنَّمَا تَجِبُ علَى مُسلِمٍ، تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ نَفْسِهِ، فَضَلَ عندهُ عن قُوْتِهِ وَقُوْتِ عِيَالِهِ يَومَ العِيدِ وَلَيلَتَهُ صَاعٌ، وتَلزَمُهُ فِطرَةُ مَنْ يَمُونُهُ بِقَدْرِهَا كَالمُبَعَّضِ، وَيُقَدِّمُ نَفْسَهُ، ثُمَّ امرَأتَهُ، ثُمَّ رَقِيقَهُ، ثُمَّ وَلَدَهُ، ثُمَّ أُمَّهُ، ثُمَّ أَبَاهُ، ثُمَّ الأَقرَبَ، وَتُسَنُّ عَنِ الجَنِينِ.
وَتَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمسِ لَيلَةَ الفِطرِ، وَإخرَاجُها يومَ العيدِ جَائِزٌ، ومِنْ يَومينِ قَبْلَهُ، وَمِنْ قَبلِ صَلاتِهِ أَفضَلُ.
وَقَدرُهَا: صَاعٌ، خَمسَةُ أرطَالٍ وثُلثٌ بِالعِرَاقِيِّ، مِنْ بُرٍّ، وشَعيرٍ وَدَقِيقِهِمَا، وَتَمرٍ، وَزَبِيبٍ، فَإن عَدِمَهُ فَمِمَّا يُقتَاتُ، وَأَفْضَلُهَا التَّمْرُ، ثُمَّ الأَنْفَعُ .
ثم قال: (بَابُ زَكَـاةِ الفِطْـرِ)زكاة الفطر: أي الإفطار، وسميت بذلك لأنها تكون عند الإفطار من رمضان، أي عند الانتهاء من صيامه، فكأنهم أفطروا -يعني- لما مَنَّ اللَّـهُ -تعالى- عليهم بإكمال شهر رمضان، كان حقًا عليهم أن يشكروا الله، ومن شكره أن يتصدقوا على المساكين ونحوهم؛ وذلك لأن المساكين في الغالب يشفقون في ذلك اليوم على الصدقة، فيعطون صدقة الفطر التي تخولهم أن يتنعموا وأن يشاركوا الناس في فرحتهم، أي في ذلك اليوم، فإذًا الحكمة فيها أنها كما جاء في الحديث : «طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِين».
والغالب أنها لأجل التوسعة على المساكين، ولذلك تخرج عن الصغار، يخرجها عن أولاده الصغار الذين لا صوم عليهم، وعن أولاده المجانين الذين لم يبلغوا ولم يكلفوا لفقد العقل، فيخرج عنهم، والحكمة في ذلك كثرتها، إذا كثرت سدت حاجة المساكين، لو كان لا تخرج إلا على البالغين، وكان صاحب البيت وزوجته اثنان، وعندهما خمسة أولاد لم يبلغوا، فإذا أخرج عن السبعة أفضل وأوسع على المساكين مما إذا أخرج عن الاثنين. فهذا من الحكمة في شرعيتها، زكاة الفطر أي الإفطار من شهر رمضان.
( تَجِبُ علَى المُسلِمِ ) ؛ لأن الكافر ليس أهلا للزكاة، لزكاة الفطر، ولأنها لا تطهره، لا يطهره إلا الإسلام، وإنما تطهر المسلمين من اللغو والرفث.
إذا فضل عن مئونته فضل فإنه -والحال هذه- تجب عليه، أما إذا لم يكن عنده إلا قوت عياله في ذلك اليوم فإنه مقدم، قوت أولاده مقدم على أداء الصدقة، فإذا كان عنده كسب وحصل على ربح، وكان من أثر ذلك أنه لما منَّ الله -تعالى- عليه فإنه يزكي، تلزمه إذا فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع. يبدأ بقوت عياله ليلة العيد ويوم العيد، ثم إذا زاد عنده زائد عن قوته في ذلك اليوم أخرج الفطرة، أخرج زكاة الفطر.
كذلك أيضًا ( تَلزَمُهُ فِطرَةُ مَنْ يَمُونُهُ بِقَدْرِهَا )، يعني كل من يمونه، أولاده الذين يمونهم -يعني: ينفق عليهم- يخرج عنهم حتى ولو كانوا أطفالا، وكذلك مماليكه وخدمه الذين ينفق عليهم، عليه أيضًا أن يخرج زكاتهم، وكذلك أبواه إذا كان ينفق عليهما، أبواه، وكذلك إخوته إذا كان ينفق عليهم، كل من تحت كفالته يخرج عنهم، فطرة من يمونه بقدرها، كالمبعض، المبعض: هو الذي يملك نصفه، إذا كان لك عبد، وأعتقت نصفه، فإن عليك نصف فطرته وعليه نصفها؛ لأنه يخدم عندك يومًا ويشتغل لنفسه يومًا.
وكذلك لو كان العبد مشتركا بين اثنين، يخدم عند هذا يوم وعند هذا يوم، فإن زكاته عليهم يخرج هذا نصف الصاع وهذا نصف الصاع؛ لأنهم ملزمون بالإنفاق عليه كذلك، فكذلك ملزمون بإخراج فطرته كذلك، هذا يسمى ( المُبَعَّض ) الذي بعضه حر وبعضه رقيق، فإذا عجز عن الإخراج عنهم كلهم بدأ بنفسه ويقول: ما عندي إلا صاع، أنا كسبي يوميًا أنفقه على عيالي، والآن فضل عن نفقة عيالي صاع، ابدأ بنفسك، أخرجها عن نفسك، فإذا فضل عنده أكثر قدم زوجته، أخرج فطرتها؛ وذلك لأنها تقول: أنفق علي وإلا طلقني، فإذا زاد عن فطرته وفطرتها أخرج عن رقيقه الذي هو المملوك، يقول: أنت عبدي وأنت مملوكي، ومعلوم أنه ليس لك أن تحترف ولا أن تشتغل لنفسك، وأنت خادم عندي، ومصالحك كلها لي، فيقول أخرج عني، يخرج بعد نفسه وزوجته يخرج عن رقيقه -يعني مماليكه- واحدا أو عددا، ثم أولاده الأكبر فالأكبر، ثم أمه، فهي أحق من أبيه، وذلك لحنوها عليه، ثم أبوه، يعني بعد الأم والأب، بعد الأم الأب، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته.
( وَتُسَنُّ عَنِ الجَنِينِ ) الذي هو حمل في بطن أمه قد انعقد الحمل، انعقد وثبت، كان عثمان -رضي الله عنه- يخرج عن الجنين، يخرج عن الجنين من زوجاته إذا ذكرت أن في بطنها حمل.
متى تجب؟ ( وَتَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمسِ لَيلَةَ الفِطرِ ) ، فلو ملك عبدًا بعد أن غربت الشمس، ففطرة ذلك العبد على الذي باعه، لا على المشتري، وكذلك لو ولدت المرأة بعد غروب الشمس، لم يلزم إخراج فطرة المولود، وإنما يستحب كالجنين، بخلاف ما إذا ولد فإنه يكون إذا وُلد قبل الغروب بدقيقة فإنها تجب الزكاة عنه والفطرة.
وكذلك إذا أسلم بعد الغروب، أسلم إنسان بعد الغروب، فلا زكاة؛ وذلك لأنه قبل الغروب ليس بمسلم.
هذا ما يفهم من قوله : ( وَتَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمسِ لَيلَةَ الفِطرِ )يعني تصير واجبة على من غربت عليه الشمس وهو مكلف، ( وَإخرَاجُها يومَ العيدِ جَائِزٌ) ، يعني إذا فاتتك حتى صليت -حتى صليت العيد- فإنك تخرجها في بقية اليوم، يجب إخراجها في بقية اليوم، ويجوز عند الحاجة إخراجها قبل يوم العيد بيوم أو بيومين، لو أخرجها قبل العيد في اليوم الثامن عشر يعتقد أن اليوم الثامن عشر هو التاسع عشر، مع أنه بقي التاسع عشر والعشرون، فتجزئه هذه الزكاة التي أخرجها قبل حلول وقتها؛ وذلك لأنه أخرجها وهو يعرف أنه مكلف بها، ونوى بإخراجها إبراء ذمته، براءة ذمته.
وقتها الأفضل قبل صلاة العيد، يعني في صبح العيد، يوم العيد في الصباح، بين الفجر وبين صلاة العيد، هذا هو أفضل أوقاتها؛ وذلك لأن الحكمة فيها التوسعة على الفقراء، حتى يستغنوا في ذلك اليوم الذي هو يوم فرح الناس ويوم سرورهم وانبساطهم، فيشاركون الناس في الفرح؛ لأنهم إذا كانوا لم يأتهم ما يقوتهم فإن أحدهم قد يسرق، وقد ينتحر، قد يخون ما عنده من الأمانات، وما أشبه ذلك. فإذا كان كذلك وكانت أيضا قد وقع، فإن عليه أن يحرص على إخراجها في ذلك اليوم الذي هو يوم العيد.
ذكروا أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث؛ لأن الصائم في صيامه قد يكون عليه هفوات وغلطات وما أشبه ذلك، فإذا كان كذلك فإنه يخرجها -يعني- لتطهره من تلك الهفوات والزلات التي تقدح في الصيام، طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين.
يقول: مقدارها ( صَاعٌ) و (الصَّاعُ، خَمسَةُ أرطَالٍ وثُلثٌ بِالعِرَاقِيِّ ) ، هذا مقدارها؛ لأنه جاء في الحديث: «صاع من طعام، أو صاع من تمر، أو صاع من بر، أو صاع من أقط، أو صاع من زبيب» وكانت هذه الخمسة هي التي تكون قوتًا في ذلك الزمان، أغلب الناس يقتاتون مثل هذه، التمر قوت وغذاء لكثير من الناس، وكذلك البر يصلح منه الخبز ونحوه، لا شك أنه قوت وأن أكثر الناس يقتاتون البر أو ما يقوم مقامه. كذلك يدخل في البر أو يجزئ عنه إذا كان دقيقًا، إذا طُحن ذلك البر، وكان بمقداره قبل أن يطحن فإنه يجزئه؛ وذلك لأنه كفاهم المئونة.
إذا كان وزن الصاع -صاع البر مثلا- كيلوين ونصف، فكم يجزئ من الدقيق؟ كيلوين ونصف، لأن الطحين عادةً إذا طحن تنتشر أجزاؤه، فبدل ما يكون صاع بر لأجل أنه دقيقًا يكون صاعا ونصف أو صاعا وثلث، فالدقيق يكثر وتنتشر حباته، والصحيح أنه يجوز من البر أو الشعير ولو مطحونين، ويجوز من البر والزبيب. البر هو الحبوب المعروفة، ويسمى حنطة، ويسمى قمحا، فهو من أفضل الأغذية، والشعير معروف أيضًا، وإن كان فيه شيء من القشر ونحوه، ولكن يصفى، أما قشره وأغلفته فتأكلها الدواب، وأما دقيقه فإنه يكون فطرة ويجزئ عنه.
كانوا أكثر ما يقيسون بالرطل العراقي؛ لأن الإمام أحمد كان هناك في بغداد وتوفي هناك، ولكن الصحيح أنه بعد أن عرفنا أنه موجود فإنه يخرج منه.
في عهد معاوية جاءهم وإذا هم يخرجون من الشعير، وإذا الناس توسعوا، يجعلون ذلك الشعير علفًا لأغنامهم، فذكر وقال: أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعًا من شعير، فعدل الناس إلى مدين من البر، يعني نصف صاع من البر، وجعلوه مكان صاع من الشعير.
ولكن أبو سعيد -رضي الله عنه- يقول : لا أزال أخرجه كما كان رسول الله ﷺ يخرجه، فكان يخرجه من البر صاعا كالشعير والتمر والزبيب، يقول إذا عدمت، (إِذَا عَدِمَ هَذِهِ الأَربَعَة فَمِمَّا يُقتَاتُ ) في الحديث مذكور معها الأقط، فتكون خمسة، الأقط وهو اللبن الذي يطبخ إلى أن ينشف، ثم بعد ذلك يقطع قطعًا وييبس كما هو معروف.
يخرج مما هو قوت يقتات، أفتى مشايخنا بإخراجها من الأرز؛ وذلك لأنه الغالب على الناس، أغلب قوتهم الأرز .
يقول: ( أَفْضَلُهَا التَّمْرُ، ثُمَّ الأَنْفَعُ ) كان ابن عمر يخرج من التمر؛ وذلك لأنه أقرب إلى التناول، أسهل تناولا، حيث أنه لا يحتاج إلى إصلاح، واختار كثيرون الإخراج من البر؛ وذلك لأنه أفضل الأقوات، واختار آخرون من الأرز؛ لأنه قوت أكثر الناس في هذه الأزمنة، وإذا وجد أناس يقتاتون الدخن أو يقتاتون الذرة أو الفول، أخرج لهم من قوتهم، وإذا وجد بوادي يقتاتون الأقط أخرج لهم من الأقط.