الشيخ صالح بن محمد الأسمري
إن لله أياما تعظم فيها الحسنات وتكثر فيها العطايا والبركات ، ألا وإن من شريف
أيام العام وفضيل الأيام : يوم عاشوراء ,وسنتعرض لجوانب تتعلق به:
الجانب الأول:
ما يتعلق بعاشوراء لغة ؛ حيث إنه بالمد عاشوراء على المشهور ، وذهب بعضهم إلى
أنه يقصر ، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي لم تكن العرب لتعرفه ، ولكنه مخالف في
ذلك ، ورد عليه ابن اليحيى بأن ابن الأعرابي حكى عن العرب أنهم قالوا : خاضوراء
وعلى زنته عاشوراء ، وعليه فإن اسم عاشوراء معروف لدى العرباء ، وليس شيئا
حادثا في الإسلام لم يكن الناس ليعرفوه من قبل .
الجانب الثاني:
فما يتعلق بزمن يوم عاشوراء ؛ حيث اختلف
الناس في ذلك على قولين :
الأول :
أن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع من محرم وليس العاشر, وهو مروي عن ابن عباس
رضي الله عنه , حيث جاء في صحيح مسلم من طريق الحكم بن الأعرج أنه قال : "
انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنه وهو متوسد رداءه ، فقلت : أخبرني
عن يوم عاشوراء ؟ قال : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ،
قلت : أهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه ؟ قال : نعم " ،
وهذا ظاهره أن يوم التاسع هو يوم عاشوراء لا أنه العاشر ، ومن ذهب إلى أن
عاشوراء هو التاسع قالوا : سمي التاسع بعاشوراء ؛ لأن الإبل كانت إذا أوردت
ورعوا منها ثمانية أياما كان اليوم التاسع يقال : قد أتت الإبل عِشرا بكسر
العين ، ثم سمي يومها بعاشوراء أخذا بذلك ، ويؤيد من ذهب إلى ذلك ما جاء في
صحيح مسلم - أيضا- : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لئن عشـت
إلى قابل لأصـومنَّ التاسع )) حيث إن قوله صلى الله عليه وسلم : ((
لأصومن التاسع )) يأتي عليه احتمالان :
الأول : أن يصوم التاسع مع العاشر .
الثاني : أن يصوم التاسع ويترك العاشر ، فيكون عاشوراء هو التاسع على قول هؤلاء
؛ إلا أن أكثر الفقهاء وجماهير العلماء والذي عليه العامة والكثيرون من السلف
والخلف هو أن يوم عاشوراء اليوم العاشر من محرم ,وعليه الأكثر -كما مضى -كما
قاله ابن المنير وابن حجر في آخرين ، ودل على ذلك دلائل كثيرة ، ومن ذلك:
* ما جاء في الحديث وفيه قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : ((
لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع )) وفي رواية (( مع العاشر )) وهذا فيه دلالة
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر على أنه عاشوراء ،
وكان حثه صلى الله عليه وسلم على صيام عاشوراء على أنه العاشر ،
ولكنه أراد أن يضم إليه التاسع ، ولكن الأجل أدركه صلى الله عليه وسلم
قبل أن يتم ما همَّ به ، وإذا كان عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم ، فإن كلمة
عاشوراء معدول بها عن كلمة عاشرة ، وكان ذلك للمبالغة والتعظيم ، وهو في الأصل
اسم لـ ( الليلة ) التي تسبق نهار يوم العاشر ، ولكن سحـب هذا الاسم على النهار
، فقيل : يوم عاشوراء ؛ ولذلك أكَّد جماعات من السلف - يرحمهم الله -أن يوم
عاشوراء هو العاشر وليس التاسع ، قال ابن سيرين- عليه رضا رب العالمين- :
"كانوا لا يختلفون أن عاشوراء هو اليوم العاشر "، إلا ابن عباس رضي الله
عنه ـما فإنه قال : إنه التاسع ، ثم ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه
ـما من ذلك قد جاء في الأحاديث ما يدل على إثباته أن يوم عاشوراء هو العاشر من
محرم لا التاسع ، ومن ذلك ما أخرجه الترمذي - يرحمه الله -في جامعه من حديث ابن
عباس رضي الله عنه ـما وفيه قال : (( أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم )) والحديث قال عنه الترمذي:"
حديث حسن صحيح ".
إذا علم ذلك ,فإن هناك رواية جاءت عند الطبراني من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه
عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه قال : " ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس ؛
إنما كان يوما تُستَر فيه الكعبة وتقلص – أي تضرب بالدف مع الغناء – وتقلص فيه
الحبشة عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يدور في السنة فكان
الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه – أي عن تحديد وتعيين ذلك اليوم الذي يدور
في السنة وهو عاشوراء – فلما مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه " قال الحافظ
ابن رجب - يرحمه الله -عن تلك الرواية : وهذا فيه إشارة إلى أن عاشوراء ليس هو
في المحرم ، بل يحسب بحساب السنة الشمسية كحسـاب أهل الكتاب ؛ إلا أن هذا
الحديث وإن صح لكن العمل على خلافه ، وقد عُيِّن عاشوراء بأنه العاشر من محرم ،
ودل عليه الدلائل الكثيرة ؛ لذا قال الحافظ ابن رجب - يرحمه الله – في :« لطائف
المعارف » :" وهذا خلاف ما عليه عمل المسلمين قديما وحديثا – أي أن يوم عاشوراء
معين بالعاشر من المحرم وليس يدور دوران العام " .
الجانب الثالث:
ما جاء في فضائله حيث إن عاشوراء له فضائل عديدات ، ولكن جماع ما ثبت في ذلك
على وجه الشهرة أربع فضائل :
الأولى :
أن له حرمة قديمة كانت منذ فترات طويلة, منذ الأنبياء الأوائل - عليهم الصلاة
والسلام -، قال الحافظ ابن رجب - يرحمه الله- في :« لطائف المعارف » : "يوم
عاشوراء له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة وصومه لفضله كان معروفا بين الأنبياء ،
ومما يدل على ذلك ما جاء عن إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة رضي
الله عنه أنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( يوم
عاشوراء كانت تصومه الأنبياء فصوموه أنتم )) وهذا الخبر خرجه بقي بن مخلد في
مسنده ." ا.هـ
الثانية :
أن يوم عاشوراء تاب الله عز وجل فيه على
آدم عليه السلام ، يقول الحافظ ابن رجب - يرحمه الله- في :« لطائف المعارف » :
صح من حديث أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد أنه قال : " سألت عبيد بن عمير عن صيام
يوم عاشوراء ؟ فقال : المحرم شهر الله الأصم فيه تيب على آدم عليه السلام فإن
استطعت أن لا يمر بك إلا صمته فافعل "ا.هـ
وما حكاه ابن رجب - يرحمه الله- قد جزم به جماعة من السلف ، ومن أولئك ابن عباس
رضي الله عنه ـما وقتادة رضي الله عنه في آخرين .
وجاء عند الترمذي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : (( إن
كنت صـائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم ، فإن فيه يوما تاب الله فيه على قوم ،
ويتوب فيه على آخرين )) فلعل قوله: (( على قوم )) يدخل فيه آدم عليه
السلام في آخرين .
الثالثة :
أن يوم عاشوراء نجى الله I فيه موسى عليه السلام ، ويدل على ذلك ما
جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه ـما وفيه قال : (( قدم
النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقـال : ما هذا
؟ فقالوا : يوم صالح نجى الله فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل
من عدوهم ، فصامه موسى عليه السلام فقال : أنا أحق بموسى منكم ،
فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه )) .
الرابعة :
أن صيام يوم عاشوراء يكفِّر السنة التي قبله ، ويدل على ذلك ما جاء في صحيح
مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه : (( أن رجلا سأل النبي
صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء ؟ فقال صلى الله عليه وسلم
: أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله )) .
*
وينبغي أن ينبه هنا إلى أن تكفير
السيئات والعفو عن الخطايا والرزايا الوارد في الحديث للسنة التي قبل عاشـوراء
؛ إنما تتعلق بالصغائر لا بالكبائر ، ذلك أن المحرمات نوعان :
النوع الأول :
يسمى بالكبائر ، وأكبرها الشرك بالله ، ثم يتلوها ما لا يخرج صاحبه من الدين
كالغيبة والنميمة والسحر وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم ونحو ذلك.
النوع الثاني :
محرم ليس من الكبائر ، ولكنه من الصغائر ، الصلاة إلى الصلاة ورمضان إلى رمضان
والجمعة إلى الجمعة تكفِّر تلك المحرمات الصغائر ، ومن ذلك أن يأخذ الإنسان من
شعره أو ظفره أو بشرته في عشر ذي الحجة إن أراد أن يضحي على القول بحرمة ذلك ،
فإنه من صغائر الذنوب لا من الكبائر .
إذا تبين ذلك فإن تكفير عاشوراء لسنة تسبقه لا يتعلق بالكبائر ؛ لأن الكبائر لا
بدَّ من توبة فيها حتى تكفِّر .
تلك هي فضائل مشهورة ثابتة ليوم عاشوراء ؛ ولذلك عظم وفضل .
الجانب الرابع:
ما يتعلق بتشريع صيام يوم عاشوراء ، والأمر بتعظيمه وفضله ؛ حيث إن ذلك أخذ
مراحل إبَّان بعثة النبي صلى الله عليه وسلم :
المرحلة الأولى:
صوم النبي صلى الله عليه وسلم لعاشوراء بمكة ، لكن لم يكن ليأمر
أحدا بصيامه ، ويدل على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله
عنه ـا أنها قالت : (( كان عاشوراء يوما تصومه قريشا في الجاهلية ، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم يصومه ، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه ، فلما
نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه
ومن شاء أفطره )).
المرحلة الثانية:
ما كان منه صلى الله عليه وسلم عند مجيئه إلى مدينته طيبة حيث صامه
وأمر بصيامه وحث الناس على ذلك حتى أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
كانوا يصـومون أولادهم ويلهونهم باللُّهَى حتى يفطروا بفطرهم ، ويدل على ذلك ما
جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه ـما وفيه قال : (( قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صُيَّاما يوم
عاشوراء ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : ما هذا اليوم الذي
تصومونه ؟ قالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى عليه السلام
وقومه وأغرق فرعون وقومه ، فصامه موسى عليه السلام شكرا ، فنحن
نصومه ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق وأولى بموسى
عليه السلام منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر
بصيامه )) وكذلك ما جاء في الصحيحين من حديث الرُّبيِّع بنت معوِّذ وفيه قال :
( قالت : أرسل رسول الله غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان
أصبح صائما فليتم صومه ، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه ، قالت : فكنا بعد
ذلك نصومه ونصوِّم صبياننا الصغار منهم ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من
العهن – أي الصوف – فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند
الإفطار ) .
المرحلة الثالثة:
ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم لما فرض رمضان صياما فإن النبي
صلى الله عليه وسلم أهمل الأمر بصيام عاشوراء وتأكيد ذلك ، ويدل على ذلك
ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه ـما وفيه قال : (( صام
النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك
ذلك )) وجاء في الصحيحين أيضا من حديث معاوية رضي الله عنه : (( أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله
عليكم صيامه وأنا صائم ، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر )) .
المرحلة الرابع:
تشريع صيام عاشوراء ما وقع من عزمه من النبي صلى الله عليه وسلم أن
يضم إلى العاشر من محرم تاسوعاء ، جاء ذلك عند مسلم من حديث ابن عباس رضي
الله عنه ـما وفيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لئن
بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع )) فتلك مراحل أربع تتعلق بتشريع صيام عاشوراء ،
تنقل التشريع عبرها ، وينبه هنا إلى مسألة اختلف الفقهاء - يرحمهم الله- فيها ،
ألا وهي هل كان صيام يوم عاشوراء مفروضا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم
قبل أن يفرض عليهم صيام شهر رمضان ؟ في المسألة قولان :
الأول :
أنه كان مستحبا مؤكدا فيه ولم يكن واجبا
مفروضا ، والى هذا ذهب جمهور الفقهاء وأكثرهم وهو مذهب الشافعية والحنابلة وهو
ظاهر مذهب المالكية .
الثاني :
ما ذهب إليه الحنفية من أنه كان واجبا قبل ذلك ثم بعد ذلك انتقل من الوجوب إلى
الاستحباب ، إلا أن ما عليه الجمهور هو الذي جزم به كثيرون كالموفق ابن قدامة
في آخرين ، ويدل عليه أن الأمر لم يكن للوجوب ؛ وإنما كان للاستحباب ، واختار
شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله- أنه على الوجوب على ما عليه الحنفية ولكل
دليله ، ولكن الاتفاق على أنه قد نسخ لو قيل إنه واجب وبقي على الاستحباب .
الجانب الخامس:
ما يتعلق بالأعمال المشروعة في يوم عاشوراء حيث إن هناك أعمالا تشرع في يوم
عاشوراء ، منها ما اتفق على شرعيته ، ومنها ما اختلف في شرعيته ، وهي أكثر من
عشرة أعمال :
أول الأعمال
: صيام يوم عاشوراء ، وقد جاء في فضله
ما جاء وسبق التدليل على استحباب صيامه ، وعلى ذلك أكثر الفقهاء كما قاله جماعة
: كابن رجب الحنبلي - يرحمه الله- في: « لطائف المعارف » وحكى ابن عبد البر -
يرحمه الله- في: « التمهيد» الاتفاق على استحباب صيام عاشوراء ، ولكن روي عن
ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما أن أصل استحباب عاشوراء صياما قد زال ، ولكن
أكثر الجماهير على استحباب صيامه وعلى هذا استقر العمل ، وحكاية الإجماع قوية ؛
إلا أن صيام عاشوراء يأتي على صور خمس :
الصور الأولى:
أن يفرد يوم عاشوراء وهو العاشر من محرم بالصيام دون أن يُضم إليه تاسوعاء أو
الحادي عشر ، واختلف الفقهاء - يرحمهم الله - هل يستحب إفراد يوم عاشوراء
بالصيام أم أن ذلك مكروه ؟ فيه قولان مشهوران :
الأول : أنه لا كراهة في ذلك والاستحباب مطلق وهو ما عليه جمهور الفقهاء وهو
مذهب الشافعية والحنابلة وظاهر مذهب المالكية .
الثاني : ما ذهب إليه الحنفية من أن إفراد عاشوراء بالصيام مكروه ، وعلتهم في
ذلك أن إفراده فيه مشابهة لأهل الكتاب ، فاستحب عدم الإفراد فكان الإفراد
مكروها ، واستدلوا بما جاء عند الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس
رضي الله عنه ـما وفيه قال صلى الله عليه وسلم : (( صوموا يوم
عاشوراء وخالفوا اليهود ، صوموا قبله يوما وبعده يوما )) وفي رواية (( أو بعده
يوما )) إلا أن الحديث قال عنه الهيثمي "يرحمه الله" : فيه محمد بن أبي ليلى
وفيه كلام ، ودليل الجمهور في ذلك ما سبق من فضل لعاشوراء ، فمن صام عاشوراء
وأفرده بالصيام فقد حقق الفضل وأخذ ما سبق من الفضائل إن تقبل الله I عمله.
الصورة الثانية :
أن يصام عاشوراء ويضم إليه التاسع ، وقد ذهب جماهير الفقهاء وأكثرهم إلى
استحباب صيام التاسع من محرم مع العاشر ، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية
والحنابلة في آخرين ، ويدل على ذلك ما جاء في صحيح مسلم وفيه قال صلى
الله عليه وسلم : (( لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع )) فدل على أن
التاسع يضم إلى العاشر صياما فيكون الاستحباب .
الصور الثالثة:
أن يصوم المرء الحادي عشر مع العاشر ، وقد استحب صيام الحادي عشر مع العاشر إن
لم يصم المرء التاسع مخالفة لليهود جماعة وعليه جمهور الفقهاء ، ونص عليه
الشافعية والحنابلة والحنفية في آخرين ، ودليلهم ما سبق في حديث : (( صوموا
قبله يوما وبعده يوما )) وفي رواية (( أو بعده )) أخرجه الإمام أحمد .
الصور الرابعة:
أن يصوم المرء التاسع والعاشر والحادي عشر فيضم إلى العاشر ما قبله وما بعده ،
ويدل على ذلك ما مضى من رواية لحديث ابن عباس رضي الله عنه ـما عند أحمد
وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : (( صوموا يوم عاشوراء وخالفوا
اليهود صوموا قبله يوما وبعده يوما )) بإثبات الواو ، وقد استحب جماعات من
الفقهاء أن يجمع الإنسان الثلاثة كلها في الصيام وأنه زيادة أجر وفضل للصائم
عندئذ ، وهو ما نص عليه الشافعية والحنفية والحنابلة في آخرين وعليه جمهور
الفقهاء .
الصور الخامسة:
أن يصوم المرء العاشر مع التاسع والحادي
عشر لا لما سبق من علة ؛ وإنما عند اشتباه دخول شهر محرم ، فإذا اختلف في هلال
شهر ذي الحجة الذي هو آخر شهور السنة الهجرية ثم لا يدري متى كان يزوغ هلال
محرم وبدء حسابه وعدِّه ، فإن الاحتياط حينئذ خروجا من الاشتباه الذي قد يرد أن
يضم المرء مع عاشوراء ما قبله وما بعده - أي أن يصوم التاسع والعاشر والحادي
عشر - وهذا هو مذهب الحنابلة والشافعية في آخرين ، وجاء عن جمع من السلف أنهم
كانوا يفعلونه ويفتون به وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه ـما وجزم به
أحمد - يرحمه الله- ، جاء عن ابن سيرين- يرحمه الله- أنه قال :" يصوم ثلاثة
أيام عند الاختلاف في هلال الشهر احتياطا "، وينبه هنا عند معرفة صيام عاشوراء
إلى ثلاثة أشياء :
الأول :
أن جمعا من الفقهاء كابن القيم الجوزية - يرحمه الله- في: « زاد المعاد »
والحافظ ابن حجر - يرحمه الله- في :«فتح الباري » في آخرين قد جعلوا صيام
عاشوراء على مراتب ثلاث :
الأولى : وهي الأعلى فضلا ورتبة وأجرا أن يصوم التاسع والعاشر والحادي عشر.
الثانية : وهي أدنى مرتبة في الأجر والفضل أن يضم التاسع إلى العاشر .
الثالثة : أن يقتصر على العاشر ، وهذا يفهم في ظل ما ذكرناه من صور خمس .
الثاني :
أن جمعا من السلف - يرحمهم الله -كانوا لا يتركون صيام عاشوراء ولو كانوا في
سفر ، فلا يجعلون السفر عذرا لهم في ترك صيام عـاشوراء ، قال الـحافظ ابن رجب -
يرحمه الله-كمـا في : « لطائف المعارف » :" كان طائفة من السلف يصومون عاشوراء
في السفر منهم ابن عباس رضي الله عنه ـما وأبو إسحاق السبيعي والزهري -
يرحمهم الله -، وقال :رمضان له عدة من أيام أخر وعاشوراء يفوت " وهذا المعنى قد
نص عليه الإمام أحمد - يرحمه الله - وجماعة .
الثالث :
من عليه قضاء من رمضان لم يأت به وأدركه عاشوراء فهل يصوم عاشوراء أم أنه يؤخر
ذلك له ثلاثة أحوال :
الحال الأولى :
أن يصوم عاشوراء بنية كونه فرضا قضاء لا بنية كونه عاشوراء وهذا قد أدى الواجب
وأتى به على وجهه وربما أخذ بركة من بركات هذا اليوم الفضيل .
الحال الثانية :
أن يجمع بين نيتين نية القضاء ونية أداء صيام يوم عاشوراء وهذا لا يصح عند
الجماهير والأكثر ؛ لأنه لابد للعبادة من نية واحدة تفرد به .
الحال الثالثة :
أن يصوم عاشوراء بنية نافلة أنه عاشوراء ليحصل الفضل ويترك القضاء إلى حين ثم
يأتي به ، وهذا مختلف فيه بين الفقهاء هل يجوز للإنسان أن يصوم نافلة قبل أن
يؤدي القضاء الواجب عليه ؟ قولان :
القول الأول : ذهب الجمهور من الفقهاء وهو مذهب الحنابلة في آخرين إلى أنه: لا
يجوز أن يقدم المرء نافلة من الصيام على فرض لم يأت بقضائه ولا يصح منه لو أتى
به .
القول الثاني : ما ذهب إليه الحنفية في آخرين إلى أنه يصح أن يؤدي الإنسان
النافلة قبل القضاء الواجب ، واستدلوا على ذلك بدلائل ومن ذلك أنه قد جاء في
الصحيح (( أن عائشة رضي الله عنه ـا كانت تؤخر قضاء شهرها إلى شهر شعبان
)) قالوا : فلا يليق بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنه أن تفوت
الأجور وما جاء من الفضائل الكثيرات في أيام وما إليها مما سبق شعبان ، ودليلهم
قوي في ذلك لكن الاحتياط أن يسبق المرء يوم عاشوراء بالصيام الواجب حتى يفرغ
النافلة فلا يفوته يوم من أيام الفضل إلا أتى عليه.
ثاني الأعمال :
أن يجدد الإنسان التوبة في عاشوراء فيتوب إلى الله عليه السلام
توبة نصوحا من جميع الذنوب ، ويدل على ذلك ما سبق من حديث وفيه قوله صلى
الله عليه وسلم ( ويتوب فيه على آخرين ) قال الحافظ ابن رجب - يرحمه
الله- في: « لطائف المعارف» : "فيه حث للناس على تجديد التوبة النصوح في يوم
عاشوراء وترجية القبول للتوبة ممن تاب فيه إلى الله تعالى عن آدم عليه
السلام " وعليه فينبغي أن يسعى الإنسان في يوم عاشوراء إلى التوبة النصوح
فيعترف بذنبه ويستغفر ربه ويتوب من قلبه نادما على المعاصي عازما على عدم
مقارفتها في المستقبل تاركا لها في حاله ، وهذه هي حقيقة التوبة النصوح بين
العبد وربه ، فإن كانت ثم حقوق للآدميين أرجعها إليه جاء في الصحيحين أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (( إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب ؛ تاب الله
عليه )) .
ثالث الأعمال:
أن يوسع المرء على عياله بإهداء ، بطعام بكساء بما يجعلهم في سعة ، ويدل على
ذلك ما جاء عند الطبراني في: « معجمه الأوسط » من حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه وفيه قال صلى الله عليه وسلم : (( من وسع على
عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها )) وهذا الحديث لا تخلو طرقه من
ضعف ، مع أن الزين العراقي وابن ناصر الدين قد صححا بعض طرق الحديث ، وذهب
جماعة من الحفاظ إلى صحة الحديث وحسنه بمجموع طرقه فبعضها يعضد بعضا ويقويه ،
ومن أولئك الحافظ ابن حجر والسيوطي - يرحمهم الله- في آخرين ، وجزم بكون ذلك
مما يعمل في يوم عاشـوراء جـماعة ومن أولئك شيخ الإسـلام ابن تيمة - يرحمه
الله- كمـا في كتاب: « الاختيارات » قال الحافظ ابن رجب - يرحمه الله- في :«
لطائف المعارف » :" وقد جرب ذلك جمع من السلف فوجدوه كذلك "- أي : من وسع على
عياله في عاشوراء سيجد السعة عليه في بقية سنته إن شاء الله - وكون التوسعة على
العيال كذلك هو مذهب الشافعية والمالكية في آخرين ، وجزم بكونه كذلك جماعة كشيخ
الإسلام ابن تيمية على ما سبق ؛ إلا أن المالكية - يرحمهم الله- قد جعلوا
التوسعة ليست خاصة بالعيال ؛ وإنما تشمل العيال والأقارب أي الإخوان واليتامى
فإن ذلك كله يدخله التوسعة عندهم ؛ لكن الحديث قد قصر ذلك على العيال أي من
يعيلهم الإنسان ويقوتهم .
رابع الأعمال:
التصدق والإنفاق ، فقد جاء عند أبي موسى المديني من حديث عبد الله بن عمرو بن
العاص رضي الله عنه ـما أنه قال : (( من صام عاشوراء فكأنما صام السنة
ومن تصدق فيه كان كصدقة السنة )) والتصدق في يوم عاشوراء يزيد أجره وفضله على
هذا الحديث وهذا هو مذهب المالكية خلافا للجمهور من الشافعية والحنابلة في
آخرين ، فإنهم لا يثبتون صحة ذلك ؛ لكن قد يشفع لذلك أن الأيام التي فيها فضل
وبركة الطاعة فيها ليست كغيرها كالأماكن التي فيها فضل وبركة كالحرمين الشريفين
المسجد الحرام والمسجد النبوي ، فالطاعة فيهما ليست كالطاعة في غيرهما وهي
قاعدة معروفة مشهورة عند عامة الفقهاء .
تلك أعمال أربعة يؤتى بها في يوم عاشوراء على ما سبق ، وبقيت أعمال ذهب
المالكية إلى استحبابها في يوم عاشوراء خلافا لجمهور الفقهاء كالحنفية
والشافعية والحنابلة فإنهم أبطلوا أحاديثها ولم يصححوا شيئا من ذلك ، وجماعها
مع ما سبق جاء عند المالكية في بيتين ذكروهما وهي قول بعضهم :
[ صُم صلِّ صِلْ ] : أي أن يأتي بالصلاة فيصلي نافلة مكثرا من ذلك في يوم
عاشوراء والصيام هو ما سبق ، وأما الصلة فإن الإنسان يصل ذوي القرابة ممن عنده
[ثم اغتسل ] أي الغسل في يوم عاشوراء مستحب عند المالكية - قال : [ رأس اليتم
امسح تصدق واكتحل ] رأس اليتيم : أي امسح رأس اليتيم في يوم عاشـوراء [تصـدق ]
: أي أنفق من صـدقة فاضلة في يوم عـاشوراء [ واكتحل ] أي بالإثمد وغيره قال :
[ وسع على العيال قلم ظفر وسورة الإخلاص قل ألفا تصل ] : أي أن يوسع المرء على
عياله وأن يقلم أظفاره وأن يقرأ سورة الإخلاص ألف مرة في يوم عاشوراء ، هذا ما
ذهب إليه المالكية - يرحمهم الله- فيما هو معروف عنهم خلافا للجمهور فإنهم
أبطلوا ما زاد عما سبق ، والصدقة عند المالكية خلافا للجمهور ومضى بيانه .
وينبه أخيراً إلى أمر : ألا وهو ما يفعله الروافض من أنهم يتخذون عاشوراء
مأتماً ، قال الحافظ ابن رجب -يرحمه الله - كما في:« لطائف المعارف » :" وأما
اتخاذ عاشوراء مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله
عنه ـما فيه ، فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا
ولم يأمر الله I ولا رسوله صلى الله عليه وسلم باتخـاذ أيام مصائب
الأنبياء وموتهم مأتما فكيف بمن دونهم " - أي من الصالحين .
تلك جوانب عديدات تتعلق بيوم عاشوراء ، وبها يبين فضله وحكمه.