وبعد عودته من فلسطين عُين جمال
عبد الناصر مدرسًا في كلية أركان حرب، التي كان قد نجح في امتحانها بتفوق
في 12 مايو 1948م. وبدأ من جديد نشاط الضباط الأحرار، وتألفت لجنة تنفيذية
بقيادة جمال عبد الناصر، وتضم: (كمال الدين حسين وعبد الحكيم عامر وحسين
إبراهيم وصلاح سالم وعبد اللطيف البغدادي وخالد محيى الدين وأنور السادات
وحسين الشافعي وزكريا محيى الدين وجمال سالم)، وهى اللجنة التي أصبحت مجلس
قيادة الثورة فيما بعد عام 1950م، 1951م.
وفي 8 مايو 1951، رُقي جمال
عبد الناصر إلى رتبة البكباشي (مقدم)، وفي نفس العام اشترك مع رفاقه من
"الضباط الأحرار"، سرًّا في حرب الفدائيين ضد القوات البريطانية في منطقة
القناة، التي استمرت حتى بداية 1952م، وذلك بتدريب المتطوعين وتوريد
السلاح، الذي كان يتم في إطار الدعوى للكفاح المسلح من جانب الشباب، من
كافة الاتجاهات السياسية، والذي كان يتم خارج الإطار الحكومي.
وإزاء تطورات الحوادث العنيفة المتوالية في بداية عام 1952م، اتجه تفكير
الضباط الأحرار إلى الاغتيالات السياسية لأقطاب النظام القديم، على أنه
الحل الوحيد. وفعلاً بدءوا باللواء "حسين سرى عامر" - أحد قواد الجيش
الذين تورطوا في خدمة مصالح القصر – إلا أنه نجا من الموت، وكانت
محاولة الاغتيال تلك هي الأولى والأخيرة، التي اشترك فيها جمال عبد
الناصر، فقد وافقه الجميع على العدول عن هذا الاتجاه، وصرف الجهود إلى
تغيير ثوري إيجابي.
ومع بداية مرحلة التعبئة الثورية، صدرت منشورات
الضباط الأحرار، التي كانت تُطبع وتُوزع سرًّا، والتي دعت إلى إعادة تنظيم
الجيش وتسليحه وتدريبه بجدية، بدلاً من اقتصاره على الحفلات والاستعراضات،
كما دعت الحكام إلى الكف عن تبذير ثروات البلاد، ورفع مستوى معيشة الطبقات
الفقيرة، وانتقدت الاتجار في الرتب والنياشين. وفي تلك الفترة اتسعت فضيحة
الأسلحة الفاسدة، إلى جانب فضائح اقتصادية تورطت فيها حكومة الوفد.
ثم
حدث حريق القاهرة في 26 يناير 1952م، بعد اندلاع المظاهرات في القاهرة،
احتجاجًا على مذبحة رجال البوليس بالإسماعيلية، التي ارتكبتها القوات
العسكرية البريطانية في اليوم السابق، والتي قُتل فيها 46 شرطيًّا وجرح 72.
لقد أُشعلت الحرائق في القاهرة، ولم تتخذ السلطات أي إجراء، ولم تُصدر
الأوامر للجيش بالنزول إلى العاصمة إلا في العصر، بعد أن دمرت النار
أربعمائة مبنى، وتركت 12 ألف شخص بلا مأوى، وقد بلغت الخسائر 22 مليون
جنيه.
وفي ذلك الوقت كان يجرى صراعًا سافرًا بين الضباط الأحرار وبين
الملك فاروق، فيما عُرف بأزمة انتخابات نادي ضباط الجيش. حيث رشح الملك
اللواء "حسين سرى عامر"، المكروه من ضباط الجيش، ليرأس اللجنة التنفيذية
للنادي، وقرر "الضباط الأحرار" أن يقدموا قائمة مرشحيهم وعلى رأسهم اللواء
"محمد نجيب" للرئاسة، وقد تم انتخابه بأغلبية كبرى، وبرغم إلغاء الانتخاب
بتعليمات من الملك شخصيًّا، إلا أنه كان قد ثبت للضباط الأحرار، أن الجيش
معهم يؤيدهم ضد الملك، فقرر جمال عبد الناصر – رئيس الهيئة
التأسيسيّة للضباط الأحرار – تقديم موعد الثورة، التي كان محددًا
لها قبل ذلك عام 1955.
وتحرك الجيش ليلة 23 يوليو 1952م، وتم احتلال
مبنى قيادة الجيش بكوبري القبة، وإلقاء القبض على قادة الجيش، الذين كانوا
مجتمعين لبحث مواجهة حركة "الضباط الأحرار" بعد أن تسرب خبر عنها .
وبعد نجاح حركة الجيش قدم "محمد نجيب"، على أنه قائد الثورة- وكان الضباط
الأحرار قد فاتحوه قبلها بشهرين في احتمال انضمامه إليهم، إذا ما نجحت
المحاولة- إلا أن السلطة الفعلية كانت في يد مجلس قيادة الثورة، الذي كان
يرأسه جمال عبد الناصر، حتى 25 أغسطس 1952م، عندما صدر قرار من مجلس قيادة
الثورة بضم محمد نجيب إلى عضوية المجلس، وأسندت إليه رئاسته بعد أن تنازل
له عنها جمال عبد الناصر.
وبعد نجاح الثورة بثلاثة أيام – أي في
26 يوليو – أُجبر الملك فاروق على التنازل عن العرش لابنه أحمد فؤاد
ومغادرة البلاد. وفي اليوم التالي أُعيد انتخاب جمال عبد الناصر، رئيسًا
للهيئة التأسيسية للضباط الأحرار.
وفي 18 يونيو 1953م، صدر قرار من مجلس
قيادة الثورة بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وبإسناد رئاسة الجمهورية
إلى محمد نجيب إلى جانب رئاسته للوزارة، التي شغلها منذ 7 سبتمبر 1952،
أما جمال عبد الناصر، فقد تولى أول منصبًا عامًّا، كنائب رئيس الوزراء
ووزير للداخلية في هذه الوزارة، التي تشكلت بعد إعلان الجمهورية. وفي
الشهر التالي ترك جمال عبد الناصر منصب وزير الداخلية – الذي تولاه
زكريا محيى الدين – واحتفظ بمنصب نائب رئيس الوزراء.
وفي فبراير 1954م، استقال محمد نجيب، بعد أن اتسعت الخلافات بينه وبين
أعضاء مجلس قيادة الثورة، وعين جمال عبد الناصر رئيسًا لمجلس قيادة
الثورة، ورئيسًا لمجلس الوزراء، وسرعان ما تم تدارك مظاهر ذلك الخلاف،
فقبل مجلس قيادة الثورة عودة محمد نجيب إلى رئاسة الجمهورية، في بيان صدر
في 27 فبراير 1954.
وفي 17 أبريل 1954، تولى جمال عبد
الناصر رئاسة مجلس الوزراء، واقتصر محمد نجيب على رئاسة الجمهورية، حتى
وقعت حادثة المنشية المزعومة، عندما ادعت قيادة الثورة تعرُّض عبد الناصر
لمحاولة اغتيال، على يد أحد أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين"، وهو يخطب في
ميدان المنشية بالإسكندرية، في 26 أكتوبر 1954م، وزعمت التحقيقات أن محمد
نجيب كان على اتصال بالإخوان، وأنه كان معتزمًا تأييدهم إذا ما نجحوا في
قلب نظام الحكم.
وهنا قرر مجلس قيادة الثورة في 14 نوفمبر 1954م،
إعفاء محمد نجيب من جميع مناصبه، على أن يبقى منصب رئيس الجمهورية شاغرًا،
وأن يستمر مجلس قيادة الثورة في تولى كافة سلطاته، بقيادة جمال عبد الناصر.
وبعد الإطاحة بالمشير نجيب بعامين، كان عبد الناصر المرشح الوحيد لرئاسة
الجمهورية، وفاز بمقعد الرئاسة بالتزكية. وقد نهج عبد الناصر نهج القومية
العربية المعتدلة بعلاقات جيدة مع الغرب، إلا أنه مال إلى المعسكر الشرقي،
معسكر الاتحاد السوفييتي.
وفي 16 يناير 1956م، تعهّد
الرئيس عبد الناصر بتحرير فلسطين وطرد الصهاينة. وفي صيف عام 1956م، خرج
عبد الناصر بقرار يؤمّم به قناة السويس، الذي بدوره أغضب كل من فرنسا
والمملكة المتحدة، لامتلاكهما معظم أسهم شركة قناة السويس. وبمساعدة
إسرائيل، شنّت كل من فرنسا وبريطانيا حربًا على مصر، وخبت نار الحرب فيما
بعد نتيجة ضغوط أمريكية وسوفييتية، ولم تتمكن فرنسا ولا بريطانيا من النيل
من مأربهما في قناة السويس.
عدم تنازل عبد الناصر أو المساومة في قضية
قناة السويس، وعدم نيل فرنسا وبريطانيا مبتغاهما، جعل عبد الناصر بطلاً
قوميًّا في مواجهة "الإمبريالية المعادية للعرب".
وفي عام 1958م، قامت
وحدة بقيادة عبد الناصر بين سوريا ومصر، تحت مسمى الجمهورية العربية
المتحدة، ومثّل الدمج البذرة الأولى لتكوين وحدة عربية واسعة النطاق.
ولم يُكتب للوحدة عمر طويل فقد تمّ حلّها في عام 1961م، إلا أن مصر
استمرّت بتبني اسم الجمهورية العربية المتحدة، حتى عام 1971م بعد وفاة عبد
الناصر بعام.
وبعد هزيمة حرب الستة أيام كما سميت في إسرائيل والغرب،
أو النكسة كما عُرفت عند المصريين والعرب، في عام 1967م، خرج عبد الناصر
على الجماهير طالبًا التنحي عن منصبه، إلا أن الجماهير طالبته بعدم التنحي
عن رئاسة الجمهورية. ويرى البعض أن قرار تنحي عبد الناصر لم يكن إلا
قرارًا صوريًا، ولم يُقصد به التنحي بمعنى الكلمة.
ظل عبد الناصر في دفّة الحكم حتى 28 سبتمبر 1970م، عندما أُصيب بنوبة قلبية أودت بحياته، عن عمر ناهز الثانية والخمسين.