كما ذُكر سابقاً, فإنَّ القرآن الكريم يحوي معلوماتٍ كثيرةٍ لا يمكن نِسبة مصدرها لأحد إلاَّ لله تعالى. فمثلاً، من أخبر محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن سدِّ ذي القرنين، وهو مكانٌ يبعد مئات الأميال إلى الشمال؟ ومن أخبره عن علم الأجنَّة؟ وعندما يُواجَه النَّاس بمثل هذه الحقائق، فإنَّهم –حتَّى وإن كانوا لا يريدون نسبتها إلى مصدرٍ إلهيٍّ- يصنِّفونها تلقائيّاً حسب فرضيَّة أنَّ أحد النَّاس قدَّمها لمحمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو بدوره قام باستخدامها لخداع النَّاس. ومع ذلك فإنَّ هذه النظريَّة يمكن دحضها بسؤالٍ بسيط: "إذا كان محمَّدٌ كاذباً (حاشاه عليه وآله الصَّلاة والسَّلام)، فمن أين له بكلِّ تلك الثِّقة؟ ولماذا قال للنَّاس مُواجهةً ما لم يستطع أحدٌ منهم قوله أبداً؟ فمثل تلك الثِّقة اعتمدت بالكليَّة على اقتناعه التامِّ بأنَّ ما يأتيه هو وحيٌ إلهيّ.
ومثال على ذلك أنَّه كان للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عمّ ٌ يُكنَّى بأبي لهب. وكان هذا الرَّجل يكره الإسلام لدرجة أنَّه كان يتبع النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أينما ذهب ليُكذِّبه. فكان إذا رأى النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتحدَّث إلى أحد الغرباء, كان ينتظر حتى يتفرَّقا, ثمَّ يذهب إلى ذاك الغريب ويسأله: "ماذا كان يقول لك؟ هل قال أبيض؟ لا، بل هو أسود. هل قال نهار؟ لا، بل هو ليل." وقد كان مُثابراً في قوله عكس ما يسمعه من محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو من المسلمين الآخرين. ورغم ذلك، وقبل عشر سنواتٍ تقريباً من موت أبي لهب، نزلت سورةٌ قصيرةٌ من القرآن الكريم بخصوصه بالذَّات، وتقول بأنَّه سوف يكون من أهل النَّار. وبتعبيرٍ آخر، فإنَّ هذه السُّورة تؤكِّد بأنَّه لن يدخل الإسلام أبداً، وبذلك سيكون محكوماً بالخلود في النَّار. ولمدَّة عشر سنواتٍ بعد نزول هذه السُّورة، كان كلُّ ما عليه قوله هو: "لقد سمعت بأنَّه قد نزل على محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأنِّي لن أتغيَّر أبداً –أي أنِّي لن أُصبح مسلماً وسأدخل النَّار. حسناً، أنا أُريد دخول الإسلام الآن. فهل يعجبكم ذلك؟ وماذا تظنُّون بوحيكم الآن؟" ولكنَّه لم يفعل ذلك أبداً، مع أنَّ هذا السُّلوك كان بالضَّبط هو المُتوقَّع من شخصٍ مثله كان دوماً يسعى لمعارضة الإسلام. لقد كان هذا وكأنَّ محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد قال له: "أنت تكرهني وتريد القضاء عليّ؟ هاك، قل هذه الكلمات (الشَّهادتيْن)، ويتمُّ لك ذلك. هيَّا، قُلْها!" لكنَّ أبا لهب -ولعشر سنواتٍ كاملة- لم يقلها أبداً! حتَّى أنَّه لم يصبح من المتعاطفين مع الإسلام. فكيف كان بإمكان النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يعلم يقيناً بأنَّ أبا لهب سيحقِّق النبوءة القرآنيَّة إنْ لم يكن حقّاً رسول الله تعالى؟! كيف كان بإمكانه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) أن يمتلك مثل تلك الثِّقة ليتحدَّى أحد ألدِّ أعداء الإسلام -ولمدَّة عشر سنواتٍ- مانِحاً إيَّاه الفرصة لتكذيب زعمه النبوَّة؟! والجواب الوحيد هو أنَّه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) كان رسول الله تعالى. فَلِكَيْ يضع نفسه أمام هذا التحدِّي الخطير, لا بُدَّ وأنَّه كان على ثقةٍ تامَّةٍ بأنَّ ما يأتيه هو وحيٌ من الله تعالى.
مثلٌ آخرٌ على الثِّقه الَّتي كان يمتلكها محمَّدٌ بنبوَّته (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) –وما يتبعها من حمايةٍ إلهيَّةٍ له ولرسالته- هو خروجه من مكَّة واختباؤه في الغار مع أبي بكرٍ الصدِّيق (رضي الله عنه) خلال هجرته إلى المدينة المنوَّرة. فقد رآى كلاهما بوضوحٍ أنَّ الكفَّار قد جاءوا لقتلهما، وأصاب الخوف أبا بكرٍ الصدِّيق (رضي الله عنه). ومن المؤكَّد أنَّ محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لو كان كاذباً، أو مُزوِّراً، أو أحد الَّذين يحاولون خداع النَّاس ليؤمنوا بنبوَّته، لكان من المتوقَّع أن يقول لصاحبه في مثل هذه الظروف: "يا أبا بكر، انظر إن كان بإمكانك إيجاد طريقٍ للخروج من هذا الغار." أو: "اخفض نفسك في ذلك الرُّكن هناك، والزم الهدوء." إلاَّ أنَّ ما قاله حقيقةً يصوِّر بوضوحٍ ثقته المطلقة. فقد قال (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) لصاحبه (رضي الله عنه): "لا تحزن، إنَّ الله معنا."
والآن، إذا كان أحدهم يدَّعي المعرفة بأنَّه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) كان يخدع النَّاس، فمن أين له (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) أن يقف هذا الموقف النوعيّ؟ فواقعيّاً، هذا النوع من التفكير لا يُعدُّ على الإطلاق سمةً للكذَّاب أو المُزيِّف. لهذا –وكما ذُكر سابقاً- فغير المسلمين يظلُّون يدورون ويدورون في الدائرة المُفرغة ذاتها، باحثين عن طريقٍ للخروج منها، لكن بالعثور على طريقةٍ يفسِّرون بها الاكتشافات في القرآن الكريم دون نسبتها إلى مصدرها المناسب. فمن ناحية، كلُّهم -في أيام الاثنين والأربعاء والجمعة- يقولون: "كان الرَّجل كذَّاباً"؛ ومن ناحيةٍ أخرى - في أيام الثلاثاء والخميس والسبت- يقولون لك: "لقد كان مجنوناً". وما يرفضون قبوله هو أنَّ الإنسان لا يمكن أن يكون الاثنين معاً؛ ومع ذلك فإنَّهم يحتاجون الحُجَّتَيْن معاً لتفسير ما جاء في القرآن الكريم.
قبل سبع سنواتٍ تقريباً, زارني أحد الرُّهبان في بيتي. وفي تلك الحجرة الَّتي كنَّا نجلس فيها كان هناك قرآنٌ على الطاولة ووجهه إلى الأسفل, فلم يعرف الرَّاهب أيّ كتابٍ هو. وفي منتصف نقاشنا, أشرت إلى الكتاب قائلاً: "أنا لديَّ الثِّقة بهذا الكتاب". فأجاب ناظراً إلى القرآن الكريم من غير أن يعرف ما هو: "حسناً, وأنا أقول لك بأنَّه إن كان ذلك الكتاب ليس الإنجيل، فقد أُلِّف من قِبَلِ الإنسان!" فكان ردِّي عليه: "دعني أُحدِّثك شيئاً عمَّا جاء في هذا الكتاب." وخلال ثلاثٍ أو أربع دقائق فقط ذكرت له ما يتعلَّق ببضعةٍ من الأمور الموجودة في القرآن الكريم. وبعد تلك الثَّلاث أو الأربع دقائق فقط غيَّر موقفه تماماً وقال: "أنت على حقّ. فالإنسان لم يؤلِّف هذا الكتاب، بل الشيطان هو الَّذي ألَّفه!" طبعاً، اتِّخاذ مثل هذا الموقف هو غايةٌ في سوء الطَّالع، وذلك لأسبابٍ عدَّة، منها أنَّه عُذْرٌ مُتسرِّعٌ ورخيصٌ كمَخْرَجٍ فوريٍّ من ذلك الوضع المزعج. وفيما يتعلَّق بهذا الأمر، هناك قصَّةٌ مشهورةٌ في الإنجيل تذكر كيف أنَّ بعض اليهود في أحد الأيَّام كانوا شهوداً حين أقام يسوع (عليه الصَّلاة والسَّلام) رجلاً من الموت. كان ذلك الرَّجل ميتاً لأربعة أيَّام، وعندما وصل يسوع، قال ببساطة: "انهض!" فقام الرَّجل ومشى في طريقه. وحين رأوا هذا المشهد، قال بعض الشُّهود من اليهود مُنْكِرِيْن: "هذا هو الشيطان. الشيطان هو الَّذي ساعده!" وهذه القصَّة تُكرَّر الآن كثيراً في الكنائس في جميع أنحاء العالم، والنَّاس يذرفون دموعاً غزيرةً لسماعها قائلين: "آه، لو كنت هناك، فما كنت لأكون غبيّاً مثل اليهود!" ويا للسخرية، فمع هذا فإنَّ هؤلاء النَّاس يفعلون ما فعله اليهود تماماً حين تعرض عليهم -في ثلاثٍ أو أربع دقائق- جزءًا صغيراً فقط من القرآن الكريم؛ وكلُّ ما يستطيعون قوله هو: "آه، الشيطان فعل ذلك. الشيطان هو الَّذي ألَّف هذا الكتاب!" لأنَّهم حقّاً يكونون قد حُشِروا في الزَّاوية؛ وحين لا يملكون أيَّ إجابةٍ مقبولة، فإنَّهم يلتجئون إلى أسرع وأرخص حُجَّةٍ مُتاحةٍ لهم.
ومثلٌ آخرٌ على استخدام النَّاس لهذا الموقف الضَّعيف يمكن إيجاده في تفسير كفَّار مكَّة لمصدر رسالة محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فقد اعتادوا القول بأنَّ الشيطان هو الَّذي يُملي عليه القرآن! لكنَّ القرآن –كعادته مع أيِّ حُجَّةٍ لهم- يقدِّم الإجابة على ذلك: فيقول الله تعالى في سورة التكوير: "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25)فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26)إِنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27) " .
وهكذا فإنَّ القرآن يعطي ردّاً جليّاً على هذا الادِّعاء. في الواقع، هناك العديد من البراهين في القرآن الكريم جاءت كردٍّ على الادِّعاء بأنَّ الشيطان هو الَّذي أملى على محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) رسالته. فمثلاً في سورة الشعراء:
"وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)".
وفي مكانٍ آخرٍ في القرآن الكريم يعلِّمنا الله تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98 سورة النحل )".
والآن، فهل بهذه الطريقة يكتب الشيطان كتاباً؟ وهل يقول للإنسان: "قبل أن تقرأ كتابي, اسأل الله أن يحفظك منِّي."؟ فما هذا إلاَّ افتراءٌ كبير، كبيرٌ جدّاً. طبعاً، إنَّ بإمكان الإنسان أن يكتب شيئاً كهذا، ولكن هل كان للشيطان أن يفعل ذلك؟ الكثير من غير المسلمين يقولون بوضوحٍ أنَّهم لا يستطيعون الوصول إلى استنتاجٍ بخصوص هذا الموضوع. فهم من ناحيةٍ يدَّعون بأنَّ الشيطان لم يكن ليفعل مثل هذا الشيء، وحتى لو استطاع فإنَّ الله تعالى لم يكن ليسمح له بذلك، ويؤمنون أيضاً بأنَّ الشيطان أقلَّ بكثيرٍ من الله تعالى. ومن ناحيةٍ أخرى -وفي جوهر ما يطرحونه- هم يزعمون بأنَّ الشيطان يمكنه ربَّما فعل أيِّ شيءٍ يستطيعه الله تعالى. وكنتيجةٍ على ذلك، عندما ينظرون إلى القرآن الكريم -وحتَّى عند انذهالهم بعَظَمَتِهِ- فإنَّهم ما زالوا يصرُّون: "الشيطان هو الَّذي فعل ذلك!" الحمد لله أن ليس للمسلمين مثل هذا الموقف. فمع أنَّ الشيطان يمتلك بعض القدرات، إلاَّ أنَّ الفرق بينها وبين قدرات الله تعالى كبير جداًّ. ولا يكون المسلم مسلماً إلاَّ إذا آمن بذلك. ومن البديهيِّ أيضاً -حتَّى لدى غير المسلمين- أنَّ الشيطان يمكنه بسهولة أن يقع في الأخطاء، ولذا فمن المتوقَّع أن يناقض نفسه إن حصل وكتب كتاباً. ولهذا فإنَّ الله تعالى يقول في سورة النِّساء: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا(82)".
وبالإضافة إلى الحجج الَّتي يقدِّمها غير المسلمين في محاولاتهم التافهة لتبرير وجود الآيات الَّتي لا يفهمونها في القرآن الكريم، فإنَّ هناك هجوماً آخر غالباً ما يظهر كمزيجٍ من النظريَّتين معاً، وهو أنَّ محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان مجنوناً وكاذباً. فأولئك النَّاس يقترحون أساساً بأنَّه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) كان مخبولاً، وكنتيجةٍ لتوهُّمه فقد كذب وضلَّل النَّاس. ولهذا اسمٌ في علم النّفس، وهو الميثومانيا Mythomania (المسُّ الأساطيريّ: وهو نزوعٌ مفرطٌ أو غير سويٍّ إلى الكذب والمبالغة.). وهو يعني ببساطة أنَّ الإنسان يكذب، ثمَّ يصدِّق ما كذب. هذا هو ما يدَّعيه غير المسلمين عمَّا كان يعاني منه محمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). إلاَّ أن المشكل الوحيد الَّذي يواجهونه بخصوص هذه الحُجَّة هو أنَّ الإنسان الَّذي يعاني من الميثومانيا لا يمكنه التعامل مع الحقائق مطلقاً، مع أنَّ القرآن الكريم كلّه قائمٌ تماماً على الحقائق. فكلُّ ما فيه يمكن بحثه والتثبُّت من صحَّته. في حين أنَّ الحقائق تعتبر مشكلاً كبيراً للمصاب بالميثومانيا. فعندما يحاول الطبيب النفسيُّ علاج أحد الَّذين يعانون من هذا المرض، فإنَّه باستمرارٍ يواجهه بالحقائق. فمثلاً، إذا كان أحدهم مريضاً نفسيّاً ويدَّعي قائلاً: "أنا ملك إنجلترا"، فإنَّ الطبيب النفسيَّ لا يقول له: "لا، أنت لست كذلك، بل أنت مجنون!" فالطبيب لا يفعل ذلك، بل بدلاً من ذلك يواجهه ببعض الحقائق قائلاً: "حسناً، أنت تقول بأنَّك ملك إنجلترا، لذا قل لي أين هي الملكة اليوم؟ وأين رئيس وزرائك؟ وأين هم حرَّاسك؟" وعندما يكون لدى هذا المريض مشكلٌ في محاولته التعامل مع هذه الأسئلة، سيحاول إيجاد الأعذار: "آه….الملكة….ذهبت إلى بيت أُمِّها. آه….رئيس الوزراء…..حسناً، لقد مات." وفي النِّهاية سيشفى من مرضه تماماً لأنَّه لم يستطع التعامل مع الحقائق. فإذا استمرَّ الطبيب النفسيُّ بمواجهته بحقائق كافية، فإنَّه بالنِّهاية سيواجه الواقع قائلاً: "أظنُّ بأنِّي لست ملك إنجلترا". والقرآن يصل إلى كلِّ إنسانٍ يقرأه بنفس الطريقة الَّتي يعالج بها الطبيب النفسيُّ مريضه بالميثومانيا. يقول الله تعالى في سورة يونس: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57)".
للوهلة الأولى قد يبدو هذا التصريح غامضاً، ولكنَّ المعنى لهذه الآية يتَّضح عندما يُنْظر إليها على ضوء المثل السابق. فالإنسان يُشفى أساساً من أوهامه بقراءة القرآن الكريم. فهو في جوهره علاجٌ يشفي الضَّالِّين تماماً وذلك بمواجهتهم بالحقائق. ومن المواقف السائدة في القرآن الكريم هو ما يخاطب به النَّاس بأنَّهم يقولون كذا وكذا حول شيء ما؛ فماذا عن هذا أو ذاك؟ وكيف يستطيعون قول ذلك وهم يعلمون؟ وهكذا. (كقوله تعالى في سورة البقرة: "الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاََ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) ")
إنَّه يرغم المرء على تدبُّر الحقيقة وما له علاقة بها، في حين يقوم في نفس الوقت بعلاجه من أوهامه، وذلك لأنَّ الحقائق المقدَّمة من الله تعالى للبشريَّة يمكن توضيحها وفصلها عن كلِّ النظريَّات والحُجج الرَّديئة. إنه نوعٌ خاصٌّ من التعامل مع الأشياء –مواجهة النَّاس بالحقائق- بحيث أسر اهتمام الكثير من غير المسلمين.
وفي الواقع، يوجد مرجعٌ مثيرٌ للاهتمام بخصوص هذا الموضوع في الموسوعة الكاثوليكيَّة الجديدة. ففي فقرةٍ بخصوص موضوع القرآن الكريم تُصرِّح الكنيسة الكاثوليكيَّة: "عبر القرون الماضية قُدِّمت نظرياتٌ كثيرةٌ عن أصل القرآن… واليوم لا يوجد إنسانٌ عاقل يقبل بأيٍّ منها."! فها هي الكنيسة الكاثوليكيَّة المٌعمِّرَةِ, والماثلة هنا وهناك لقرونٍ عديدة, تنكر تلك المواقف التافهة لدحض أصل القرآن الكريم. القرآن الكريم بالطبع يمثِّل مشكلاً للكنيسة الكاثوليكيَّة, فهو يصرِّح بأنَّه وحيٌ من الله تعالى, ولذلك هم يدرسونه. ومؤكَّدٌ أنَّهم يودُّون إيجاد برهانٍ على أنَّه ليس كذلك، ولكنَّهم لا يستطيعون. فهم لا يستطيعون إيجاد تفسيرٍ مقبول. لكنَّهم على الأقلِّ شرفاء في بحثهم، ولا يقبلون بأوَّل تفسيرٍ غير مدعومٍ بدليلٍ يأتي إليهم. فالكنيسة تصرِّح بأنَّه -وخلال أربعة عشر قرناً- لم يُقدَّم بعد تفسيرٌ معقول. فهي بذلك على الأقلِّ تعترف بأنَّ القرآن الكريم ليس موضوعاً سهل الإنكار. لكن هناك بالتأكيد آخرون ممَّن هم أقلُّ شرفاً حين يقولون على عَجَل: "آه، لقد جاء القرآن من هنا، أو من هناك." وهم حتَّى لا يتفحَّصون مصداقية ما يصرِّحون به في معظم الأحيان. وطبعاً، فإنَّ مثل هذا التصريح من الكنيسة الكاثوليكيَّة يسبِّب للمسيحيِّ العاديِّ شيئاً من الصُّعوبة. وذلك لأنَّه ربَّما يكون لديه أفكاره الخاصَّة عن أصل القرآن، ولكنَّه كعضوٍ في الكنيسة لا يستطيع التصرُّف حقّاً حسب نظريَّته. فمثل هذا التصرُّف قد يكون مناقضاً للخضوع والإخلاص والولاء الَّذي تطلبه الكنيسة. فبموجب عضويَّته في الكنيسة، يتوَّجب عليه قبول ما تعلنه الكنيسة الكاثوليكيَّة دون سؤال، وأن يجعل تعاليمها كجزءٍ من روتينه اليوميّ. لذا، فجوهرياًّ إذا كانت الكنيسة الكاثوليكيَّة في عمومها تقول: "لا تستمعوا لتلك التقارير غير المؤكَّدة حول القرآن"، فما يمكن أن يقال حول وجهة النَّظر الإسلاميَّة؟ فحتَّى غير المسلمين يعترفون بأنَّ هناك شيئاً في القرآن –شيئاً كان يجب أن يكون معترفاً به- إذاً فلماذا يكون النَّاس عنيدين، وهجوميِّين، وعدائيِّين، حين يقدِّم المسلمون نفس النظريَّة؟ هذا بالتأكيد شيءٌ لأولي الألباب ليتأمَّلوا فيه –شيءٌ للتأمُّل لأولئك الَّذين يعقلون!
قام حديثاً واحدٌ من المفكِّرين القياديِّين في الكنيسة الكاثوليكيَّة –يدعى هانز- بدراسة القرآن الكريم، وأدلى برأيه فيما قرأ. هذا الرَّجل أثبت حضوره القوي على الساحة ولزمنٍ طويل، وهو ذو منزلةٍ رفيعةٍ في الكنيسة الكاثوليكيَّة، وبعد تفحُّص دقيقٍ نشر ما وجده مستنتجاً: "إنَّ الله قد كلَّم الإنسان من خلال الإنسان، محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)". ومرَّةً أخرى يأتي هذا الاستنتاج من مصدرٍ غير مسلمٍ –وهو مفكِّرٌ قياديٌّ كبيرٌ في الكنيسة الكاثوليكيَّة نفسها! أنا لا أظنُّ بأنَّ البابا يتَّفق معه، ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ رأي مثل هذه الشخصيَّة العامَّة ذائعة الصِّيْت وذات السُّمعة الحسنة يجب أن يكون له وزنه في الدِّفاع عن الموقف الإسلاميّ. ويتوَّجب التَّصفيق له لمواجهته الواقع بأنَّ القرآن الكريم ليس شيئاً يمكن أن يلقى بعيداً بسهولة، وبأنَّ الله تعالى حقّاً هو مصدر كلماته.
يتَّضح من كلِّ ما تقدَّم سابقاً بأنَّ كلَّ البدائل قد استنزفت، ولذا فالفرصة لإيجاد إمكانيَّةٍ أخرى لإنكار القرآن الكريم لا وجود لها. لأنَّ هذا الكتاب إن لم يكن وحياً، فإنَّه عندئذٍ خداع؛ وإن كان خداعاً، فإنَّ على الإنسان أن يتساءل: "فما هو مصدره؟ وفي أيِّ جزءٍ منه يقوم بخداعنا؟" وطبعاً فإنَّ الإجابات الصحيحة على هذه التساؤلات تُلقي الضَّوء على أصالة القرآن الكريم، وتُسكت ادعاءات الكفَّار اللاذعة وغير القائمة على دليل.
ومن المؤكَّد أنَّه إذا استمرَّ أولئك النَّاس بالإصرار على أنَّ القرآن الكريم ما هو إلاَّ خداع, فإنَّه يتوَّجب عليهم تقديم البرهان الَّذي يدعم ادعاءهم. فعبء إيجاد البرهان يقع على عاتقهم، وليس على عاتقنا! فلا يُفترض من أحدهم أبداً أن يقدِّم نظريَّةً بدون حقائق كافية تعزِّزها؛ لذا فأنا أقول لهم: "أروني خداعاً واحداً! أروني أين يخدعني القرآن الكريم! أروني ذلك، وإن لم تفعلوا، فلا تقولوا لي بأنَّه خداع!
التعريف بالمؤلِّف:
الدكتور جاري ميلر (عبد الأحد عمر) عالمٌ في الرياضيات واللاهوت المسيحيِّ ومُبشِّرٌ سابق. يُبيِّن كيف أنَّه بإمكاننا تأسيس إيمانٍ صحيحٍ بوضع معايير للحقيقة. ويصوِّر طريقةً مُبسَّطةً وفعالةً لإيجاد الاتجاه الصحيح أثناء البحث عن الحقّ.
وقد كان الدكتور ميلر في إحدى فترات حياته نشطاً في التبشير المسيحيّ، ولكنَّه بدأ مبكِّراً باكتشاف تناقضاتٍ كثيرةٍ في الإنجيل. وفي سنة 1978، حصل أن قرأ القرآن الكريم مُتوقِّعاً بأنَّه أيضاً سيحوي خليطاً من الحقيقة والزَّيْف. لكنَّه ذهل باكتشافه أنَّ رسالة القرآن الكريم كانت مُطابقةً لنفس جوهر الحقيقة الَّتي استخلصها من الإنجيل. فدخل الإسلام، ومنذئذ أصبح نشطاً بتقديمه للناس، بما في ذلك استخدام المذياع والبرامج التلفازيَّة. وهو أيضاً مؤلِّفٌ للعديد من المقالات والنشرات الإسلاميَّة، نذكر منها: "ردٌّ موجَزٌ على المسيحيَّة – وجهة نظر المسلم"، و "القرآن العظيم"، و "خواطر حول (براهين) أُلوهيَّة المسيح"، و "أُسُسُ عقيدة المسلم"، و "الفرق بين الإنجيل والقرآن"، و "المسيحيَّة التبشيريَّة – تحليلٌ لمسلم".أ. ه
موقع جامعة الملك فهد للبترول والمعادن حيث يمكنك أن تجد صفحته و صورته أيضاً :
http://www.kfupm.edu.sa/math/45.htm تم بحمد الله وفضله
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين