يختلط أحدنا يومياً بعدد كبير من الناس، وهو بحكم كونه من (أتباع الرسول ) فإنه يتمثل قول الله تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني ، والدعوة هذه لا يلزم التفرّغ لها، بل يقوم بها المسلم ضمن عمله، مهما كان هذا العمل، فالأب في بيته داعية، والطبيب في عيادته داعية، والمهندس في ورشته داعية، وهكذا.
تحيط بهذه الدعوة ضوابط مهمة، وقد اجتهدت في تصنيف بعضها، فكان منها:
1- أنه من الممكن جداً أن يكون المدعو خيرٌ منك عند الله تعالى:
عندما تعلم ذلك، فإنك لا تستكبر ولا تستعلي عليه؛ إذ { لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر }، كما أخبر عليه الصلاة والسلام، هَب مثلاً أنك تريد نصح أخيك الذي ترك صلاة الفجر، ينبغي عليك أن تعلم وأنت تعظه أنه صار فيه من الحرقة والألم والتوبة ما قد كفَّر الله بها عنه ورفعه عنده، لا بل وقد بدَّل هذه السّيئة حسنة، كما وعد سبحانه فيمن تاب توبةً نصوحاً: أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ، ولكن هذه المعاني العظيمة من التوبة والحرقة لم تكن فيك عندما تركتها أنت منذ فترة! وظننتَ أنّ كونك مما يُشار إليه على أنه (متدين)، أو أن فيك من مظاهر التدين الظاهرة ما يشفع لك عند الله!
قل لي بربك الآن: ألم يبلغ هذا المدعو ما لم تبلغه أنت؟ وكيف تكون نظرتك إليه بعد هذا؟ إن النظرة الفوقيَّة أيها الأحبة لأخيك المسلم هي في الواقع طريق الهلاك.
ألاّ تشعر – والحال هذه- أنه يمكن أن نستبدل في كثير من الأحيان مفهوم (الداعية) و (المدعو) ليكون كل منهما (داعية ومدعو) في آنٍ واحد؟
إذا تأثرتَ بتلك المعاني الإيمانية العظيمة التي ظهرت عند أخيك، صرت بذلك: (مدعوًّا) مع كونك (داعية)، وهو كذلك، فإنه (مدعو) بطبيعة الحال، ولا بأس في أن يجد في نفسه شيئاً من ( أسلوب) دعوتك مثلاً، فيوجّهك ويدعوك، فيكون بذلك: ( داعية)!
ينبغي أن نحوّل كل الناس إلى (دعاة) بهذه الطريقة، إنها طريقة عدم تصنيف المسلمين إلى (دعاة) و(مدعوين)، وإنما تحويل الحالة هذه إلى حالة (دعوة متبادلة) للجميع، فلا يغترّ من ظن نفسه داعيةً فحسب، وهو المتكلم والناصح، وله صدر المجلس الكلاميّ دوماً، حتى إذا نُصح أو وُجّه، استغربَ وانتفض، وكذلك لا يُربَّى المدعو دائماً على السمع والطاعة والتنفيذ فحسب، فلا يجرؤ على الكلام وإبداء وجهة النظر، ولا يتعوّد على الجهر بالحق، في الوقت الذي يمكن أن تكون وجهة نظره خير من وجهة نظر غيره ممن يشار إليه أنه (الداعية).
2- أن تعلم علم اليقين أن الهادي حقيقةً هو الله تعالى لا أنت:
وإنما هدايتك هداية (إرشاد) فحسب، ولا تملك من الأمر شيئاً، لا بل هي هداية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إنهم لا يملكون هداية (التوفيق)، وقد أشار ربنا تعالى إلى هذا المعنى في قوله: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)، فقال: (يخرجهم) ولا يخرجون أنفسهم، ولا يخرجهم دعاتهم.
إذا علمت ذلك، تضرَّعت إلى (مقلب القلوب) و(مالك الملك) أن يأتي بالمدعو، وأن يفتح مسامع قلبه لكلامك، ويكون ذلك التضرع حالةٌ دائمة في قلبك، قبل دعوتك وأثناءها.
3- الإخلاص لله تعالى:
وهو في الواقع أول الأمر وآخره، وعليه مدار العمل في كل عمل يُتقرَّب فيه إلى الله تعالى، وهذا (الإخلاص) وإن كان معظمنا يفهم معناه لغةً وشرعاً ويحفظه، إلا أننا مقصّرون في تذكّره والتذكير به.
من المهم أيها الأخ أن تراجع نفسك، وألاّ تمشي قُدُماً في دعوتك دون أن تقف وتسأل نفسك: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بفعلتي؟ كما كان بعض السلف يقول: ماذا أردت بشَربتي؟ ماذا أردت بنَومتي؟ فإنهم كانوا يخلصون في المباحات لتتحول إلى (طاعات)، فما بالنا بالصالحات الصرفة؟ أليست أولى بالمراجعة وتحري الإخلاص؟
أتمنى ألا يُفهم أنه كلما خطر لك خاطر سوء في دعوتك من رجاء سمعة أو جاه أو مالٍ أو منصب، تركتَ العمل! كلا، فإنه كما أن العمل لغير الله ممنوع، فتركه لغيره – سبحانه- ممنوع أيضاً، وإنما المقصود الوصول لحالة من (التوازن)، التي تجعلك تقف – بدون توقّف!- وتراجع في هنيهات نفسَك، وقد تسأل الله كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه: { اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم }، وقلبك ينبض بها..
فلا تأمر إلا بما أمر به الله تعالى أو نبيه -صلى الله عليه وسلم- أمرَ وجوب أو استحباب، ولا تنهى إلا عما نهى الله تعالى عنه أو نبيه -صلى الله عليه وسلم -نهيَ تحريم أو كراهة. ليست المسألة إذاً أنك (سمعت) أو (قيل لك) إنه حرام، أو رأيت ( منطقياً) أنه حلال، فإن هذا الأمر دين، (فانظروا عمن تأخذون دينكم).
ينبغي أيها الأخوة علينا أن نصل إلى حالة (التوازن) بين (بلّغوا عني ولو آية) وبين (من كذب عليّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار)؛ إذْ كم من الناس كذبّوا ليبلغوا!
إن في الدين أموراً يمكن لكل مسلم الدعوة إليها، تلك المعلومة بالضرورة، من أصول الاعتقاد، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحريم الربا والزنا والخمر، أو راجحة ودليلها بيّن كتحريم المعازف، ولكن الناظر في مجتمعاتنا يرى تفشي المنكرات المعلوم حرمتها بالضرورة تفشياً مذهلاً، لذلك لاتعجب من نزول اللعنات والمصائب على الأمة: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان موسى وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه).
ليس بالضرورة أن يكون أحدنا عالماً بأصول الدين وفروعه، وجميع تفاصيله، ينبغي على كلٍ منا أن يقيّم نفسَه، أو يطلب من صاحب علمٍ تقييمَه، (من أنا علمياً؟؟) بذلك يعرف بماذا يتكلم، ويأمر وينهى، وبماذا يقول: (هذه المسألة أكبر مني)، وإذا فعلنا فسنجد الكثير من المسائل التي سنقول فيها: (أكبر منّا)!
- وإذا كان العلم بما تأمر وتنهى شرط من شروط الدعوة إليه، فإن العمل به ليس كذلك! وإن كان الأكمل والأولى أن تكون فاعلاً لما تأمر به، وتاركاً لما تنهى عنه.
فلا يمتنع تارك المعروف عن الأمر به، ولا فاعل المنكر عن النهي عنه، ولكن يجعل نفسَه أول المخاطبين في أمره ونهيه، فيكون (داعيةً ومدعو)!
وإذا ما دعانا أحدٌ إلى أمرٍ هو تاركه، أو نهانا عم فعلٍ هو تاركه، فينبغي الانصات والإصغاء، بغض النظر عن المتكلم؛ إذْ ما يعنينا هنا هو باطل الكلام أو صوابه، لا حال المتكلم، ثم لا مانع من كونك (داعية ومدعو) أن تعود فتدعوه إلى الخير الذي تركه وتنصحه بأنك استجبت، ولكن غيرك قد لا يستجيب؛ لأن الآمر والناهي لا يتمثل ما يأمر وينهى...